أماكن خاصة/الحلقة 18 : مدرسة شدرا
بعد نيلي الشهادة الإبتدائية، كنت بين أربعة، من التلاميذ، يريدون متابعة دراستهم، لنيل شهادة البروفيه. كذلك الأمر في مدرسة شدرا. نال خمسة من تلاميذها الشهاد الإبتدائية. وصاروا يبحثون عن مدرسة، لمتابعة الدراسة الإعدادية. دراسة شهادة البروفيه الرسمية.
إجتمع الأمر على الإنضمام إلى بعضنا. صرنا مجموعة من تسعة طلاب، يريدون متابعة دراستهم. إنضم مدير مدرستنا إلى مدير مدرسة شدرا. وذهبا معا، إلى طرابلس، لمراجعة رئيس الدائرة، والطلب إليه، بفتح صف لشهادة البروفيه، في مدرسة شدرا، لأن عدد تلاميذها أكثر.
تأرجحت المراجعات، بين أخذ ورد، حتى تمت الموافقة، بعد شهر، من فتح المدرسة. كانت فرحتنا وفرحة أهالينا لا تصدق. فما كنا قادرين على متابعة الدراسة الإعدادية، لولا فتح صف لنا، في مدرسة شدرا.
كان البناء المدرسي في شدرا لا يتسع، لإستقبال صف جديد. بناء حجري قديم، من الحجر الأبيض، على شكل L. غرفة للمدير والأساتذة. وأربعة غرف أخرى إلى جانبها، حتى يكتمل الشكل. وتضيق المساحة عن المحتوى.
كان البناء لا يكفي لخمسة صفوف. ولذا كانت غرفة منه، تستقبل صفين: الثالث والرابع. ثم جاء قرار فتح الصف الأول لشهادة البروفيه. فأضيفت إلى المشكلة القديمة، مشكلة طارئة. كان لا بد من إستئجار غرفتين جديدتين، بالقرب من بناء المدرسة. فوقع الإختيار على منزل حجري حديث البناء. يملكه رجل، له ولد نال شهادة السيرتفيكا معنا. فتحمس للأمر، وحشر عائلته، في بيته القديم بجوارنا. وكانت فرصتنا، لندخل الصف، في الأسبوع الأول من كانون، مع عيد الشجرة.
كان تفاؤلنا بالمناسبة في محله. تسع غرسات جديدة، تغرس، في يوم الشجرة. وإحتفاء بذلك، قمنا بغرس صنوبرة، إلى جانب حائط المدرسة. صارت تكبر معنا.
على تلة مشرفة على الوادي المهيب، ببساتينه وجنائنه، وبالنهر الذي يجري فيه، وبالعين القريبة، التي كانت تروينا، كان الصف الجديد لتأسيس الإعدادية، في مدرسة شدرا صفا صفا. كما سنة سنة.
لم يكن للمدرسةملعب. كانت كل الحفافي والتلال والأنحاء ملعبنا. كنا ننتشر، مع سائر تلاميذ المدرسة، على درب العين. وعلى درب النهر. وعلى سائر الدروب الفرعية. كنا نعتلي الأسطح القريبة. نتسلق الصخرات العنيدة. وأحيانا كثيرة، نصر على البقاء في غرف الصف، أثناء فرصة العاشرة، أو فرصة الظهيرة. لا لشيء إلا لأن الطقس الماطر يحاصرنا.
كانت معاناتنا اليومية في الوصول إلى المدرسة، تشغلنا كثيرا. كان من التلاميذ من يمشي زهاء 4 كلم، تحت الريح والمطر والزمهرير، للوصول إلى المدرسة. وكان مدير المدرسة، كما الناظر صارما. لا يقبل التأخر عن الوصول قبل الثامنة، للدخول إلى الصفوف بإنتظام. كان التلاميذ ينتظمون صفوفا صفوفا، أمام أبواب الغرف. يدخلونها بإنتظام، بعد النشيد الوطني، وتأدية التحية الرمزية، للعلم المفقود في المدرسة. فما كان للمدرسة، إلا علم واحد يرفرف، فوق باب مدير المدرسة. كانت ساريته تطل على القسم القديم من المدرسة.
كنا نتقدم في الصفوف، وكانت المدرسة تلحق بنا. تتقدم مع تقدمنا. صارت المدرسة تحتاج كل عام إلى بناء جديد. وكانت الإدارة، تبادر لإستئجار مزيد من الأبنية. بعدما تشعبت الصفوف، وفاضت عن الغرف. فصار تلاميذ مدرسة شدرا ينتشرون في الحارات كلها. إنضم إليها جميع تلاميذ القرى المجاورة. شهدت جدرانها، على الخمسماية تلميذ. كانت المدرسة الوحيدة، التي تتقدم. وتأخرت المدارس الأخرى عن اللحاق بها.
تقدمنا بعد أربع سنوات، لإمتحانات شهادة البروفيه. نجح التلاميذ التسعة. لم يتسرب منهم أحد. فسجلت بذلك درجة عالية من السمعة الجيدة، بين سائر المدارس التي إنتشرت حديثا في المنطقة.
كانت إدارة المدرسة جدية في تعميم الإنضباط على الجميع: المدرسين قبل التلاميذ. كانت المسؤولية، إمتحانا يوميا للإدارة. فما عرفت الإضطراب، إلا حين وفدت إليها الأحزاب. فصارت ملعبا بلا ملعب لأحزابها.
إنتشرت مدرسة شدرا، في الناحية الجنوبية من البلدة. مدرسة عامرة، بتلاميذها. عامرة بمدرسيها. ضم سجل المدرسين اليومي فيها، زهاء أربعين مدرسا. وفدوا إليها من طرابلس، ومن الكورة. ومن زغرتا. ومن البترون. ومن سائر المناطق المجاورة. كانوا يستأجرون البيوت، ويخالطون الأهالي. وكانوا يناسبونهم في الزواج وفي المصاهرة. فقد شكلت مدرسة شدرا، بوابة عض ظيمة على الإنفتاح الوطني. وعلى الإنفتاح المجتمعي. صار شمال لبنان كله في شدرا.
كان الخليط السكاني، في شدرا عظيما للغاية. فقد إعتادوا الإنفتاح على كل لبنان، من الشمال إلى الجنوب. ومن الساحل إلى الجبل، وصولا حتى سهل البقاع والقرى الشرقية. مؤسستان عظيمتان، جعلت من شدرا بلدة الإنفتاح الوطني: مسسة التعليم، والمؤسسة العسكرية. فكل أبنائها، إما يخدمون في القطاعات العسكرية، وإما من الذين إنخرطوا مدرسين في المدارس الخاصة أو الرسمية. فكان لشدرا هذا الطابع الرحب. وكان لشدرا مثل هذة الخصوصية الجميلة. فما بالكم، إذا ما تحدثنا، عن إنتشار أبنائها في سائر أخماس الأرض. فكانوا من المهاجرين. وكانوا من المغامرين. وكانوا من الناجحين. ولم تعوزهم حيلة لتحقيق النجاحات، إلا إنخرطوا فيها.
مدرسة شدرا، كانت مرآة حقيقية، لهذة البلدة المنفتحة على دنيا لبنان والجوار. ولهذا كانت تمثل أنموذجا راقيا. كان المدرسون يدخلون إلى بيوت الأهالي مثل أبنائها. وكانوا يؤاخون تلاميذهم، حتى يشعروا بعمق السكينة بينهم. كانت المدرسة سكنا روحيا لهم. فكان لتلاميذ مدرسة شدرا، أن يبرعوا أينما حلوا وإرتحلوا.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.