مقالة الاثنين في ” ميزان الزمان ” الأدبي :
“المــَـكــِـــر”..
بقلم: د. بسـّام بلاّن
أن تَرِدَ مُفردة “مكر” في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرة، وفي آيات وسور تنوعت أسباب نزولها، فإن في ذلك بلا شك لعبرة كبيرة، فهذا السلوك “المكر” جزء لا يتجزأ من حياة الكائنات الحية بصورة عامة، والإنسان على وجه الخصوص.
رغم مرور أكثر من أربعين عاماً، إلاّ أنني لا أزال أتذكر ما انتابني من حيرة وقلق وتشكيك، عندما سمعت للمرة الأولى الآية 30 من سورة الأنفال: “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”. واذكر حينها أنني كنت أقف وأمشي وأجلس وأنام وأقوم، وثمة سؤال واحد في نفسي: كيف يكون الله ماكراً؟!.
عندما وصلت حيرتي الى منتهاها، سألت أستاذي في المدرسة.. حاول جاهداً أن يوضح لي.. قبلت معه المعنى، ولكنني لم أستطع تقبّل وصف الله عز وجل بـ “الماكر”.
فمفردة المكر، والتي تعني باللغة “الغش والخداع”، ارتبطت بذواكرنا الطفولية بالثعلب، وقصته الشهيرة مع الحمامة ومالك الحزين. ولمن نسيها، أن ثعلباً رأى حمامة تحتضن زغاليلها في عشها على الشجرة، فصاح بها من الأسفل: يا حمامة إرمِ لي ولاداً من أولادك، وإلاّ صعدت إليك وأكلتك وأكلت كل أولادك. ولم يشفع للحمامة عنده تذللها وبكاءها، فأصر عليها. وأمام رعبها منه قررت التضحية بأحد أولادها كي تنقذ نفسها والبقية.. فرمته له.. إلتهمه بتلذذ وغادر.
وبينما هي غارقة بعويلها ودموعها، جاءها طائر مالك الحزين، سألها ما بها، فقصّت عليه قصتها.. لامها ملامة كبرى على امتثالها لطلب الثعلب “الماكر” وقال لها إنه سيعود إليها يوم غد، وسيساومها على ولد آخر من أولادها بنفس الطريقة، وحذرها من الامتثال لطلبه، وأن تتحداه كي يصعد للشجرة إن كان قادراً.. وإذا صعد فعلاً، تهاجمه وتضربه بمنقارها الصلب على رأسه وأنفه وعينه.. حينها لن يستطيع المقاومة وسيُدبر هارباً منها.
في اليوم التالي، عاد الثعلب للحمامة، طلب منها ولداً من أولادها.. فهزأت منه وقالت له الشيء الذي علمها إياه مالك الحزين. غضب الثعلب غضباً كبيراً، وسألها مَنْ الذي علمها ذلك؟.. قالت له مالك الحزين.
تركها وذهب الى مالك الحزين، وقف بعيدا عنه وسأله: يا مالك الحزين، إذا هبّت الريح من يمينك كيف تحتمي منها؟. قال: أضع رأسي تحت جناجي اليسار. سأله: وإن هبت من اليسار؟. قال له: اضع رأسي تحت جناجي اليمن. سأله: وإذا هبت عليك من كل الاتجاهات ماذا تفعل؟. قال له: أضع رأسي تحت جناحَيّ الإثنين. قال له الثعلب: يستحيل أن تستطيع فعل ذلك. رد عليه: بل أستطيع. قال الثعلب: إذاً دعني أرى كيف تفعل.
رفع مالك الحزين جناحيه قليلاً، ومدّ رأسه الصغير المنتصب فوق عنق طويل ووضع رأسه تحتهما.. وقبل أن يتلذذ بدفئهما.. استغل الثعلب الفرصة وإنقضّ عليه.. وافترسه. وبينما هو يلتهمه قال له: قبل أن تعلم الآخرين الحكمة والمكر، علّمه لنفسك أيها الأبله. هل كنت تعتقد أنك قادر على مواجهة مكر الثعالب؟.
عندما كبرت وأبحرَت بي الحياة في أمواجها المتلاطمة، عرفت المعنى الواسع والعميق لـ “المكر”.. فهو مفهوم؛ أي أعمق بكثير من كونه عبارة نرددها أو صفة نطلقها على هذا وذاك، وأبعد بكثير من كونها صفة للثعالب وأشباههم من البشر.
المكر، حسب فهمي صيغة من صيغ الحياة الواسعة، وكثيراً ما تأملته وأسقطتُ عليه ما حولي.. فساعة ولادة الإنسان لا تخلو من مكر القدر؛ وكذلك ساعة رحيله.
شكل المخلوقات، بخاصة الانسان، فيها الكثير من المكر على الطبيعة. فهل سأل أحدكم نفسه يوماً، عن أسباب أشكال وتكوين المخلوقات والكائنات الحية، وتأملها وتأمل بيئتها؟. إن فعل ذلك سيجد سياقاً للفهم والعبرة.
الجغرافيا فيها الكثير من المكر.. وكذلك الألوان والأسماء.
والتاريخ أمكر الماكرين.
الصحة ماكرة. وكذلك المرض.
الشباب ماكر. وكذلك الشيخوخة.
الغنى ماكر. وكذلك الفقر.
القوة ماكرة. وكذلك الضعف.
الدفء ماكر. وكذلك البرد.
في الإنفتاح مكر. وكذلك في الإنطواء.
في الحب مكر. وكذلك في الكره.
الكلام ماكر. وكذلك الصمت.
كثيرون يعتقدون أنهم غير محظوظين. وهذا اعتقاد خاطئ جملة وتفصيلاً. والحقيقة أن هؤلاء مكر بهم الحظ لا أكثر، وراحوا يندبون ويبكون.
الحظوظ بين الناس شبه متساوية، ولكن ثمة من يستغل ما بين يديه فيحقق من حظه أعلى النسب، وآخرون يختارون المشي عكس الاتجاه، فتمكرهم الحياة.. وتمكرهم ربما لسنوات، وعندما يقررون تصحيح المسار يجدون أن ما كان بين أيديهم قد ضاع وبات من شبه المستحيل إعادة المياه لمجاريها السابقة.
صحيح أن هناك دائماً بدايات جديدة. وهناك دائماً وقت للتعويض. ولكن الصحيح ايضاً أن ما فات لايعود.. وما سنبدأ به من جديد سيكون بمعطيات وظروف و”مكر” مختلفين عما كان من قبل.
أمكر الناس من يتقي مكر الحياة به. وإن فعل سيصفه الآخرون بـ “المحظوظ” أو “الذكي”. وسيغدقون عليه الثناء والإعجاب.
أتعس الناس من عوّد الحياة على المكر به، ستسعده يوماً وتشقيه أيام.
أذكى الناس من عاش فصول حياته كلها في حينها.
أتعس الناس من مكر به ربيعه ليرميه في شتائه. ومن مكر به صيفه ليرميه في خريفه.
……
“ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”، ومعناها الفقهي أن الله عز وجل وحده قادر على إبطال مكر الماكرين.
د. بسّام بلّان