أماكن خاصة/الحلقة 16
” غرفة القمر”
أتحدث عن غرفة ما سكنها إلا القمر. ما حرسها ليلا، إلا القمر. غرفة واحدة بسيطة وصغيرة، على سطح “بناية الغر”، فوق فرن الشامي، في الجميزات بطرابلس، تطل على أجمل مدرسة من مدارس الإرساليات. لا زالت تحتفظ بحلتها القديمة، بعد جرف معظم مدارس الإرساليات بالمدينة الفرير والراهبات. بعد توحش قطاع البناء. عنيت بها، مدرسة دير راهبات عبرين.
غرفة على روف البناية، تنبسط أمامها كل جنائن المدينة التي تحيط بمستشفى النيني، و تحيط كذلك، بمدرسة عبرين. جنائن الليمون الفواحة، التي توزع عطرها على مدار العام على المدينة. حتى أكسبت المدينة لقبها التاريخي، قبل أن يذهبوا بجنائنها. فعرفت بالفيحاء، لفواح زهر الليمون الدائم فيها.
صعدت أليها، فوق الطابق السابع. كانت بلا مصعد كهربائي. كان درج البناية صديقي للوصول إليها. حدثني عنها صاحب البناية، الذي كان يرافقني: هذة البناية، حين صممها المهندس في الأربعينيات، من القرن العشرين، ما كانت تحتاج إلى مصعد. فقد صمم المهندس لها درجا سهلا، ولو إلى الغرفة في الروف التي يسكنها القمر. نعم هذة الغرفة التي لا يسكنها إلا القمر.
فتح لي بابها الذي يطل على دنيا المدينة. إنبسط أمام ناظري، ذلك الروف الواسع الجميل، الذي يحيط بالغرفة من ثلاث جهات: شمالا وشرقا وغربا. وأما الجهة الجنوبية، فهي المدخل إليها. يتجمع كل العطر على بابها. ينتظر أن يفتح الباب، فيدخل مع الزائر من بابها. يرافقه من أسفل الدرج، يهون عليه الوصول ولو إلى الطابق السابع، يضخ في رئتيه الشذى.
كانت مدرسة راهبات عبرين، تنبسط مثل الكف، من الجهة الغربية، لغرفة القمر. بينهما الطريق إلى مستشفى النيني، والسور الذي يحيط بالمدرسة. يتعالى فوقه الشجر البلدي، يعرش عليه الياسمين. كنت أرى بنات المدرسة، كيف يمضين معظم الوقت، يقطفن أجراسه يعبئنه في جعابهن وفي جيابهن. وفي ثيابهن. حتى كان يقال لبنات مدرسة عبرين: بنات الياسمين.
بعد مغادرة قريتي، في تشرين الثاني من العام1976. تعرفت على محلة الجميزة. كانت ناحية رائعة من نواحي المدينة الفواحة. أعجبت بالشارع الذي يصل إلى مدرسة الأرمن فمستشفى النيني. كان شارعا جميلا جدا. زينت البلدية جانبيه بأشجار الزينة. كانت طرابلس عروسا في حينها. وكان ذيل فستانها، يصل إلى بوابة مدرسة عبرين، فتنشره، على البنايات الأخيرة. أشار صاحب البناية إلى سطح الغرفة المعلق في السماء. دلني على الدرب التي ينزل منها القمر ليلا، ويملأ الغرفة نورا.
إتخذت هذة الغرفة سكنا لي لعامين. شهدت على تأسيس أول سرير لنوم مهاجر من القرية. وعلى أول سحارة لكتب ودفاتر وأوراق مدرس في المدرسة. كنت طوال الليل، أساهر القمر، من جهة الشرفة المطلة على ساحة المدرسة. وكان حين يغيب خلفها، أدخل إلى غرفتي. أنظر من سريري، إلى ضوئه الشاحب، وهو يختفي شيئا فشيئا، وراء غصون الأشجار. علمني كيف أعد غصون الأشجار ليلا، وكيف أعد معها غصص القلب.
إستضافني القمر في غرفته، لسنتين. ما مل مني. ولكني كنت حينها، كما قال المتنبي:
وإذا الشيخ قال أف فما م…/ل حياة وإنما الضعف ملا.
لطالما كنت وحيدا أجلس على كرسي الخيزران الوحيدة في غرفتي، إلى طاولة صغيرة يتيمة، وأمامي مرآة شاحبة، أنظر فيها وجهي، الذي تغير علي، بعد إنتقالي من القرية إلى طرابلس، تحت وطأة ظروف الحرب الأهلية التي داهمتنا، وداهمتني. كنت أنظر إلى جدران الغرفة الأربعة، وإلى سقفها، أتلمس نفسي. أسألها، إن كنت حرا. أم كنت سجين رأي. فقد إنتقلت بالوحشة، من زاوية إلى زاوية. كنت أستوحش الحرب في قريتي. وأما الآن، فانا أستوحش الوحدة في غرفتي. يشهد علي القمر في غرفتي. غرفة القمر.
لطالما كنت أجلس إلى طاولتي، أفتح صناديق الكتب، وأراجع فيها أبحاثي. كنت أتابع التحضير لمناقشة رسالة الماجستير في الجامعة اللبنانية. وحين مضيت بها، صرت أقمش وأحرر على طاولتي الصغيرة، رسالة الدكتوراه التي كنت سجلتها في الجامعة اليسوعية. وكنت إلى هذا كله، أواظب على التحضير المدرسي، وعلى التحرير الصحفي. كنت إلى جانب ساعات التعليم، أحرر المقالات الصحفية. كانت غرفة القمر شاهدا على همومي جميعها.
لطالما غادرت غرفتي، ونسيت بعضي فيها. وجئت مع الغروب، أتفقد ما نسيت. كنت أجد في غرفتي ملاذا لوحشة تساكنني وأساكنها. ولا أجد تسلية عنها، إلا حين أجلس إلى الشرفة، أعد نجوم السماء. أساهر القمر. كان نوره يبدد من نفسي وحشتها، ويمنحني حين يغيب، أمل اللقاء به غدا.
كان السرير في غرفة القمر، يتوجع مثلي. كنت أسمع طقطقات قلبه طوال الليل. وكلما تقلقلت بهم، تقلقل مثلي. كان يعد كل ليلة أضلعي. يخشى أن تسقط مني. كانت حوائط الغرفة، تحبس مني أنفاسي. تزايد في السواد، على داخون الفرن الذي يتوسط الشرفة، فتتموضع على الجدران آهاته، وتعظم، كلما كان يلكزه العامل على بيت النار بوقدة.
كانت نافذة الغرفة، مهرب الداخون ومهربي. أمضيت زهاء سنتين في غرفة القمر، وأنا أبحث عن المهارب، التي أحتاجها لإلتقاط، كل يوم، يومي.
كانت عصافير الدوري تأتي إلي بالرسائل، من مدرسة عبرين. تقول لي بإجنحتها، وبزقزقاتها، إن المدرسة قد فتحت أبوابها. وأن الشبابيك قد إمتلأت بشالات البنات وبالجدائل التي تكاد تطير منها. وأن معلمات الصف، شرعن بالدروس، فإبتعدنا خشية التشويش عليهن. كان غرفة القمر تسهر في الليل على إستتباب الهدوء في ساحاتها. لطالما خشيت من سكون الليل في غرفة القمر. فالسكون، كان كثيرا مايثقلني. كان كثيرا ما يوحشني في غرفة القمر.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين