مقالة الاثنين:
البـَــوْ..
بقلم: د, بسّـام بـلاّن
-×-×-×-×-
لا أظن أن شخصاً ريفياً واحداً لا يعرف ما هو البَو وما هي دلالاته ووظيفته.
أنا شخصياً عرفت البَو مذ كنت صغيراً، أثناء زيارتي الى بيت جدي في القرية.. كان في ذلك الوقت منتهى متعتي أن أستيقظ مع الفجر إما لمرافقة جدي الى كروم العنب وأركب معه على الحمار، أو متابعة الأعمال اليومية مع جدتي، من خبز التنور الى العناية بالدجاج وأخذ بيضه أو حلب الماعز في “الصيرة” أو البقرة في “الباكية”. كبرت كثيراً ولاتزال حتى اليوم رائحة خبز التنور في ذاكرتي، كما رائحة الدواب والأنعام في تلك الدار العتيقة.. وأحن إليها أيما حنين.
تعرفت على البَو ووظيفته عندما رافقت المرحومة جدتي الى الباكية لحلب البقرة، لأتفاجأ بوجود مجسم عجل صغير بجانب البقرة، عبارة عن جلد محشو بالتبن بجوارها.. سألت جدتي بدهشة: شو هذا يا ستي؟
أجابت: هذا بَـوْ يا ستي.. وشو يعني بِـوْ يا ستي، سألتها؟..
فشرحت لي ان البَـو هو حيلة يلجأ اليها مربو الإبل أو البقر عندما يموت وليد البقرة أو الناقة، فيسلخون جلده ويحشونه تبناً ويضعونه بجانب أمه كي تستمر في درِّ الحليب، لأن البقرة أو الناقة ستتوقف عن الحَلبِ في اللحظة التي لا تجد وليدها بجانبها، فهي غريزياً تدر الحليب لوليدها وليس للبشر.
وأكملت لي أن بقرتهم تعسّرت ولادتها وكانوا مضطرين للتضحية بوليدها لإنقاذ حياتها.. وأضافت أنهم أخذوا العجل النافق واعتنوا بالبقرة حتى تعافت، وقاموا بسلخه وحشوه تبناً ووضعوه بجانبها لتأنس به.. ومن فورها بدأت تلعقه بلسانها ودرّت الحليب له من ثدييها.
وأخبرتني جدتي حينها أيضاً، أن البقرة يجب ألاّ تكتشف هذه الحيلة، لأنها إن اكتشفتها ستدخل في حالة من الكآبة والحزن الشديدين سيجف معهما ضرعها وقد تموت.
صدمني جداً ما سمعت، ورحت أتامل البقرة وعينيها وحركاتها وحزنت حزناً شديداً على الخديعة التي تعيشها، بينما ستي كانت تحلب ضرعها وتبسمل وتذكر الله وتتعوذ من الحسد والحاسدين على غزارة حليبها.. أما أنا فكنت أتمنى لو أنني أستطيع التحدث الى هذه البقرة المخدوعة المسكينة لأخبرها أنهم كذبوا عليها وهم يستغلونها بوهمِ لا وجود له.. ولكن ما في اليد حيلة.
أمضيت كل اليوم أفكر بما حصل، وبين كل ساعة وأخرى أتسلل الى الباكية، رغم تحذيرات ستي وجدي، وأتلصص على البقرة وبوّها ومتابعة تحركاتها. دمعت عيناي وأنا أراها تتقرب منه وتلعقه بلسانها حنواً وحباً.. وتحاول ما استطاعت ان تعطيه ثديها، وتلتف حوله، بينما هو جماد لا يتحرك ولا يهش ولا ينش.. ولليوم لا أصادف بقرة في أي مكان إلاَ وأول شيء أحاول التأكد منه إن كان وليدها معها أم لا.. وفوق كل ذلك ارتبطت البقرة في ذهني بالمخلوق المخدوع، والمُستغل المطلوب حليبه فقط ولو بالخداع وبـ “البَو”.
……
لا أخفيكم أنني لفترة وجيزة مضت، كنت أظن أن البَو هو حيلة تُستخدم للبقرة او الناقة لاستدرار حليبها، ولكن مع ممارسة الحياة والتعمق فيها صعودا إلى تلالها وهبوطاً نحو وهادها، وبما فيها من آمال وانكسارات ونجاحات واخفاقات وأفراح وأحزان وخيبات، يجعلني أجزم أن كلَّ واحد منا وُضع أو وضع أمامه عدداً لا حصر له من “الأبواء” لاستدرار حليبه وجهده وتعبه وسنين عمره.
في كل واحد منا عدد لا حصر له من “البَوّات أو الأبواء”؛ شخصية وعاطفية واجتماعية ونفسية.. منها ما نما وترعرع وكبر في داخلنا، ومنها هو ما تمت صناعته من الخارج. فالأنانية مثلاً “بَـوْ” تجعلنا ننفق حياتنا ونؤذي أنفسنا وغيرنا لإثبات فكرة، وكذلك النرجسية.. وغيرهما.
المعتقدات الموروثة “بـَو”، تستنزفنا، وتحرمنا متعة التطلع الى فضاءات رحبة وأفكار جديدة، وتغذية العقول والنفوس بما يتلاءم مع معطيات واقعنا وعصرنا.
أشخاص قريبون جداً وغير قريبين من حياتنا، تكشف لنا الأيام أنهم “بَـوّات”، سخّروا وجودهم بجانبنا أو معنا “لاستدرار حليبنا” وحسب، وعندما ينتهي دورهم يختفون.
وأوجع ما يصادفنا الأوطان الـ “بَـوّات”، التي كانت ولا تزال طُعماً وحيلة لاستدار ضرعنا وحلبنا حتى آخر نقطة.. وبيع حليبنا للآخرين وجني المكاسب، فيما نحن غافلون.. وعندما نكتشف ذلك تثور ثائرتنا ونركب بحار الموت ونقتحم جدران النار كما يفعل المجانين.
الأغاني والأناشيد الوطنية “بَـوّات” تحمسنا لبذل الأرواح على مذابح الآخرين وفداء لهم في حروب لا أحد يعرف أساسها ولا أسبابها ولا خلفياتها الحقيقة ولا نتائجها.. وعندما تأتي ساعة الحقيقة لا نحصد منها إلاّ الاكتئاب أو الموت والعيش ما تبقى لنا من سنين متسولين..
وتطول، للأسف، قائمة “البَوّات” في رحلة حياتنا وقد تنتهي هذه الرحلة دون أن نكتشف حقيقتها.
فإذا كان حال البقرة والناقة يدعونا للإشفاق عليهما عند الوقوع في وهم البَـوْ، فمن الجدير بنا أيضاً الإشفاق على أنفسنا للخروج بأقل الخسائر من فخ “البِوّات” التي تملأ حياتنا وتُهلك زرعنا وضرعنا.
….
في قاموس اللغة:
البَـوْ إضافة الى ما سبق يعني كذلك الرماد والأحمق، وجمعه: أبواء
د. بسّام بلّان