إنتقام أبي كَلْــــدة *
بقلم: د. بسّـــام بلاّن
-×-×-×-×-
حكايةُ انتقام أبي كَلْــــدة، رواها وكررها الكثيرون أمامي.. وسمعتها من الكبار عندما كنت طفلًا.
أبو كَلْــــدة سليل عائلة اقطاعية، أو شبه اقطاعية، ورث عن أبيه وجده أراضٍ وأملاكاً تكفيه لولد الولد، وتؤمن لهم عيشاً كريماً بكلّ المقاييس.
بيته في المنطقة يشبه السرايات، هو من بقايا الامبراطوريات الكبرى، الذي لم تغادره الروح ولم يُهجر أو يتحول الى خرابة، بقي نابضاً بالحياة رغم تعدد وتنوع الحِقب التاريخية التي شهدتها المنطقة.. وعن هذه السرايا وحياة أهلها أُثقلت ذواكر الناس بشتى صنوف الحكايات والروايات.
أبو كَلْــــدة واحد من الاقطاعيين الذين لم تنل الثورات الاشتراكية في المنطقة وقوانين الاستملاك والاستصلاح الزراعي وتوزيع الثروات على الفلاحين والعمال من التغيير في فكره الاقطاعي ..
وعن السر وراء ذلك، حُكيت أيضاً قصص كثيرة، أقربها الى العقل والتصديق أنه استطاع بمهارة ركوب هذه الثورات ورفع ألوية “الرفاق”، الذين كانوا على ما يبدو بحاجة ماسة لخدماته ونفوذه، وحسب ما يهمس كثيرون، فقد قايضوه المُلك بدعمه لهم، طبعاً مع شروط المرحلة الجديدة؛ ومن أهمها تغيير نمط تعامله مع الفلاحين والرعاة في اقطاعته، و رمي الكرباج والعصا واستبدالهما بسياسة العرض والطلب دون إكراه أو استعباد أو استبداد.. حتى ولو كلفه ذلك ترك مئات دونمات الأرض بوراً بين عام وآخر إن لم يجد من يعمل بالأرض، وفي النهاية الفلاح يبقى فلاحاً وتغيير هذه المهنة بالنسبة إليه يحتاج الى جيل أو أكثر للخروج منها وارتداء عباءة أبناء الطبقة الوسطى من المتعلمين والموظفين، والى ذلك الحين يموت أناس ويحيا آخرون..
مأزق أبي كَلْــــدة الأكبر والأصعب في حياته جاءه من أبنائه، الذين جاؤوا بنظرة أخرى للحياة وتطلعات مغايرة تماماً لما هو عند أبيهم، الذي كان يرفض بأي حال من الأحوال الخروج من ميراثه الاقطاعي، في الوقت الذي كان لأبنائه الستة آراء أخرى استلهموها من معطيات عصرهم، فلما لا يتجهون نحو الزراعة الحديثة أو الصناعة مثلاً خاصة أنهم قادرون على إدارة أي نشاط اقتصادي أو مهني بعد أن تأهلوا تعليمياً وعاشوا في المدينة وفهموا بوضوح ما يجري خارج إقطاعة أبيهم وفلاحيه ورعاته ومواسمه ومهاراته “الحربائية” وقدرته الخارقة على تغيير جلده ولونه فقط، دون أي مساس بالجوهر.. هذا الاختلاف بين الأب وأبنائه تحوّل مع الزمن الى خلاف لامس حدود العداء، فهم لهم تطلعات أبناء العصر، وهو يتحدث بلغة العصر ويرتدي ملابس عصرية ويقود سيارة حديثة، ولكنه من الداخل لم يتغير أبداً عن والده أو جده.
تحدث أهل القرية، التي كان أبو كَلْــــدة يمتلك أكثر من ثلاثة أرباعها، أنهم كثيراً ما سمعوا أصوات الشجار بينه وبين أبنائه تملأ الدنيا في سابقة غير معهودة أبداً في تلكم الدار المُهابة من القريب والبعيد.. ووصلت الأمور بأبي كَلْــــدة أنه لجأ الى أحد العاملين عنده من أصحاب العضلات المفتولة والقلب الميت لتعنيف أحد أبنائه وضربه بقسوة وحبسه في الزريبة مع الدواب.
أمام هذا الواقع، قرر الأبناء ترك الجمل بما حمل لأبيهم وهجر القرية بحثاً عن أحلامهم ومستقبلهم.. وتفرقوا في أرجاء أمريكا الجنوبية بين فنزويلا والبرازيل والأرجنتين.. وانقطعت أخبارهم تماماً.
مرّت السنين وتقدمت السن بالرجل الذي راح يشكو الوحدة والعزلة.. وزادت حالته سوءاً بعدما توفيت زوجته ولحقت ابنته الوحيدة بأحد أخوتها سرّاً دون أن تخبره.. الأمر الذي زاد من حقده على أبنائه وتحميلهم مسؤولية كل جرى يجري له.. وعندما كان يتجرأ أحد على سؤاله عن سفر أبنائه، كان جوابه قاطعاً بأنهم أغبياء لا يفهمون يريدون تدمير ميراث أهله وراثته.. وكل همهم اقتسام المُلك معه وهو حي يرزق، وهذا ما لا طاقة له به.. لذلك تركوه وهاجروا وربما ينتظرون موته ليعودوا ويجلسوا على كرسيه لأخذ مكانه.
إحساسه بالمرارة وعناده وخيبته في زواجين بعد وفاة أم أولاده، وتغيّر نظرة الناس اليه وانقسامهم بين مُقاطعاً له، أو مجاملاً لأسباب خاصة، أخرج كل الشرور منه، وراح يقضي ليله ونهاره في كيفية الانتقام من أولاده أولاً ومن كل من حوله ايضاً… وأخيراً اهتدى للوسيلة..
“فكرة شيطانية” لجأ إليها للانتقام من الجميع وجعلهم يخوضون صراعاً وحروباً فيما بينهم لعقود عديدة من الزمن دون أن ينعموا بالراحة والاطمئنان.. فكل همه تمحور حول استعادة مكانته والبقاء سيّد اقطاعته فيما تبقى له من سنين، وبعد ذلك ليكن الطوفان.
ضالّته الخبيثة وجدها في القيام ببيع أراضيه وأملاكه بالاحتيال. وبأثمان بخسة وكان يتفق مع المشتري ويكتب عقود البيع معه شريطة أن يبقى الأمر سراً بينهما، لأن وضعه الاجتماعي والعائلي لا يسمحا له أبداً ببيع أراضيه وأملاكه، وكان يشترط على المشتري ايضاً السماح له باستخدام الأرض لحين موته، وبعدها يُظهر عقد البيع بينهما الممهور بتوقيعه وبصمته وختمه ويسجل ما اشتراه رسمياً في الدوائر المختصة..
كرر هذا الأمر مع كثيرين، وباع لكل قادر على الشراء، من داخل القرية وخارجها.. باع كل أملاكه مرّات ومرّات وبنفس الشروط، كان يضيّع الأموال يميناً ويساراً دون حساب.. الى أن جاءت ساعة الحقيقة.
وبعد وفاة الرجل، والانتهاء من مراسم العزاء راح كل واحد ممن باعهم يُخرج عقد البيع والوثائق التي بحوزته بينه وبين المرحوم.. وهنا وقعت الحرب بل الحروب ووصلت أصوات طبولها الى كل مكان.. حروب لا يمكن إيقافها إلاّ بخسارات كبيرة لا يستطيع أحد منهم تحملّها أو تجرّع مرارتها.. فسالت دماء وحُرقت بيوت وتعمقت الثارات بين الناس.. بينما كان أبو كَلْــــدة يراقب كل ما يجري من قبره.. وعلى ذمة البعض قالوا إنهم رأوا قبره أكثر من مرة يهتز على إيقاع قهقهته..
ولليوم لاتزال هذه الحروب مستعرة، ومتوارثة من جيل الى جيل، وإن هدأت لسبب أو لآخر، تشتعل مجدداً عندما تسنح أي فرصة لذلك.
……..
ما جرى ويجري في بعض جمهوريات الموز والاقطاعيات ومنها العربية طبعاً، يشبه الى حد بعيد ما فعله أبو كَلْــــدة. كثيرون باعوا بشرط “السريّة”.. ولكن الحرب الكبرى سرعان ما تشتعل نيرانها بين المشترين عندما تُعلن وفاة البائع.. وإن هدأت لسبب أو لآخر، ستشتعل من جديد عندما تتغير الأسباب وتتهيأ الظروف.
أبو كَلْــــدة نرى أشباهه اليوم في كل مكان حولنا، نراه في الزعماء التقليديين “والحداثيين”، في السياسة والاقتصاد ومترأساً البنوك المركزية أو قيادة جيش أو ميلشيا أو فصيل شرعي أو غير شرعي… وتطول القائمة.
وهمسة أخيرة لكل الذين اشتروا بشروط أبي كَلْــــدة: لن تنالوا إلاّ سخريته منكم وهو مسترخٍ في قبره، وستنفقون أجيالاً وحاضراً ومستقبلاً وثروات في حروب لن تبقي ولن تذر.
***
تنويه:
* “أبو كَلْدة”: كنية الضبع.
* وقعت أحداث هذه القصة في منتصف القرن العشرين، في نطاق جغرافي غير محدد أو معروف.
د. بسِّام بلّان