قراءة نقديّة في مجموعة حميد عقبي الشعريّة “ملاك موت بلا وطن”.
بقلم د. دورين نصر.
-×-×-×-
صدر عن منشورات فورم كناية للحوار وتبادل الثقافات ديوان “ملاك موت بلا وطن” للشاعر والمخرج والكاتب السينمائي والمسرحي “حميد عقبي”. وهو ديوان يثير العديد من الإشكاليّة لا سيّما أنّ البحث عن أنواع أدبيّة جديدة في الكتابة أو تفكيك أنواع قديمة رغبةً في “الانفتاح على أجناس محتملة الوجود”( ) بات مطلبًا مُلِحًّا. ما يدفعنا للتساؤل: كيف أسّس حميد عقبي للقصيدة؟
إنّ المعاينة الأولى لهذا النّصّ المسرحي (إذا جاز القول) الذي ينتهي بالمشهد التالي:
“الليلة طويلة لا تنتهي
وإن انتهت نُسدل الستارة الخشنة”، تُبيّن بأنّ الموت هو البطل وإن اتّخذ أشكالاً وتحوّلات عديدة، ما يمكّننا من تقسيم القصيدة إلى خمسٍ وثلاثين حركة تتراوح بين السكون والحياة وتجمعها قيمة واحدة “العشق والموت”. الموت هو الصوت الملحّ في النّصّ، إذ يقول:
“أسمع صوته في ثنايا القصائد”.
كما أنّه يفتح النافذة على حياة مغايرة، ويؤسّس لولادة ثانية. فتقطع الأنا الكاتبة علاقتها بالواقع المعيش، تعيش موت الهويّة الفرديّة وتغترب عن المألوف، إذ يقول:
“بعد الموت نحتاج إلى سموات مفتوحة”
فالأنا الكاتبة تلِجُ في عتمة نفسها، تعيش جدليّة الموت والعشق، انطفاء الوعي ويقظة اللاوعي، فتتساوى الأزمنة، إذ يقول:
في لحظة حاسمة ندرك الماضي والحاضر
نرى ما فاتنا من أحلام اليقظة والمنام
ما لم نحمله أو نتخيّله
نولد ولادة حقيقيّة
عندما نعشق وعندما نموت
إنّ الشعر استنادًا إلى أدونيس “هو” ممارسة كيانيّة للوجود، والشاعر لا يكتب عن الشيء، بل يكتب الشيء (…). كما أنّ محاولة الشاعر أن يُدرك ما يتعذّر إدراكه، وهو بذلك يتقاطع مع الفيلسوف الألماني “هيدغر” الذي يرى أنّ الشاعر مُلقى، خارج المألوف، في حياتنا اليوميّة، هو تأسيس للوجود وليس لاحقًا له. ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: كيف حاول حميد عقبي أن يدرك بالخيال ما يتعذّر إدراكه في الواقع؟
فالمرأة عنده تولد في الكلمات وبالكلمات، وتخرج من رحِم الرؤيا، إذ يقول:
قلتُ للعشيقة أنتِ مصنوعة
من غيومٍ نقيّة
ممزوجة بخيالات القمر
ففي حضور المرأة في هذا النّصّ الطويل، تتحقّق جدليّة الموت – الولادة، الامتلاء – الخواء، النشوة، والفراغ.
ويتناوب النّصّ بين النثر والشعر، فتشكّل بعض الصور العصب المركزوي في نسيج النّصّ، ويتّضح هذا الأمر من خلال الاقتصاد اللغوي، المتمثّل في التركيز والتكثيف والطاقة الإيحائيّة العالية والغموض، وفي الانحرافات اللّغويّة المتنوّعة، والفجوات الشعريّة إذ يُترك للقارئ مهمّة ملء الفراغات، يقول الشاعر:
* تكفينا ثلاث مشمعات
ووردة مبتسمة
* تحاول النّبتات المتسلّقة النزول
تمسكها الجدران بقوّة
تأتي قذيفة حارقة من السّماء
يحترق ما بقي من رفات البردوني
إنّ هذه الانحرافات اللّغويّة والفجوات الشعريّة تؤدّي دورًا مهمًّا، إذ تُنشِئ صورًا فيّاضة بالمعاني، وتنتج تراكيب ودلالات شعريّة تناسب حركة السرد في القصيدة.
وينهي حميد عقبي المشاهد المتتالية في النّصّ بحركة أخيرة “وليست ليلة واحدة”، مشهد أخير يبدأ بنفي وكأنّه يريد أن يُقصي ملاك الموت ليحلّ مكانه ملاك الحبّ. تتجلّى قوّة هذه الصورة من خلال وظيفتها الأساسيّة في إعا دة التوازن إلى الحياة.
عودًا على بدء، يحاول حميد عقبي من خلال الشعر أن يعود طفلاً متفلّتًا من قيود الزّمان والمكان، إثمه الوحيد هو العشق، إذ يقول:
“وحدها العشيقة تدفعني أن أرتكب هذا الإثم
تنفخ في خيالاتي بعض الصّور
والشّوق يجعلني أتمادى
لستُ إلاّ طفلاً مجنونًا
يتخيّل أكثر ممّا يجب”
إنّ هذا النّصّ الطويل فتح آفاقًا جديدة أمام النقد الذي قد يُوفّق أحيانًا في القبض على المعنى ويُخفق أحيانًا أخرى. وهذا النّصّ ترافقه مغامرة جريئة في عالم اللّغة، ذات طبيعة سورياليّة عمل فيها على كسر حدودها وتشكيلها وفقًا لمنطقه الخاصّ.
أليس العمل الأدبي كما يقول جيرار جينيت أداةً للرؤية يضعه الكاتب في متناول القارئ بغية مساعدته على القراءة في ذاته؟
د. دورين نصر