“مجدرة حمرا”:صفعات تعنيف تستجلب التصفيق
بقلم الكاتبة والاعلامية دلال قنديل
-×-×-×-×-
مريم، سعاد وفطيم (مصغر فاطمة)ثلاث سيدات ،بصوت ووجه وجسد رشيق واحد،بشعر مسترسل مكشوف حيناً، يلائم شخصية مريم الصحافية والكاتبة المتحررة، أوبخصلات أمامية متفلتة من الحجاب كسعاد الغارقة ببؤس التعنيف اليومي لزوج متعدد العلاقات ومدمن على الميسر والكحول.
سعاد أكثرهن بساطة وبلاغة في آن، تنضح عذاباتها من زواج مبكر،وتعنيف يومي يخرج عن الترميز ليطل بمشاركة الجمهور في صفعها بقوة عبر التصفيق.طيِع الجمهور بالانصياع لترديد التصفيق كلما سمع كلمة كف.
تراجيديا سعاد ليست بعيدة، بتلك الحركة الذكية المتتالية على إيقاع التصفيق للصفعة يعتلي الجمهور الخشبة ويتماهى مع المُعَنِف زوجها.
سعاد الأبسط بين رفيقات طفولتها تسكن تحت جِلدنا منذ لحظة إنصياعنا للتصفيق.وها نحن ننغمس كل يوم بسرد تفاصيل الاعتداءات على مثيلاتها القتلى منهن أو الأموات الأحياء!.
ثلاث سيدات بثقافات متنوعة تجمعهن لهجة متلونة ، مرنة. رفيقات طفولة،عُلقن على خشبة مجتمع قاهر، يحكين حكايات النساء أجمعين. تتوالى المشاهد بديكور لا يتعدى اريكة بلون محايد.تتأرجح نبرة الصوت بين التمدن واللكنة الجنوبية الجامحة بمداتٍ طويلة حتى النهايات دون تقطيع.
هكذا تتلاعب نغمة الممثلة إنجو ريحان بمشاعر الجمهور،تتبدل معالمها بلغة جسدها المرن بين الجِد والهزل.تتلون حركتها برمشة عين بين الشخصيات الثلاث.
الممثلة أنجو ريحان في مسرحية ” مجدرة حمرا ” للمخرج يحيي جابر
خطوة ليمين الكنبة او شمالها،تنتصب محدقةُتكلم الجمهور امام المسرح.
جمهور كدنا نظن أنها ركنته جانباً، تناست وجوده بالأصل مستغرقة بشخصياتها، تتلاعب بهن وبنا،تأخذنا الى عوالمهن المشبوكة بخيوط الحيرة والازمات ،نغوص فيها بحوارات مغزولة بقساوة المُعاش وخفةِ السُخرية.
يضحك الجمهور ، يقهقه مراراً، تتجاوزه أنجو،لا تكرر جُملَها، إلا إذا إرتأت إختيار مشاركة أحد الحضور في حوارات شخصياتها، المحصورة بها وحدها.
كأن بها تنسينا ونحن نغرق في هزال الضحك من وجع أننا نقف امام مرآتنا، ليس بعيداً سوى خطوات عن المأساة المتجلية بالنهايات.
مريم العائدة من باريس بعد تجربة زواج فاشلة طمعاً بإستعادة قصة حب جمعتها في الثانوية برفيقها الشيوعي، إكتشفت بعد تواصلهما عبر الفايس بوك أنه إختار العودة للتحزب لكن بدلاً من الشيوعية إلتحق بتنظيم ديني شيعي، عارضاً عليها أن تكون زوجته الثانية بعقد قران “متعة”.
تجاهر مريم بأنها لا تحبذ مؤسسة الزواج اصلاً ورغم ذلك تضيع بين حبيبين ، لا تقطع الوصل ولا توطده.
تبدو مريم أقواهن ، وأكثرهن جمالاً .تدور أنجو بين زاويا الكنبة متلبسة شخصيتي رفيقتيها فطيم التي توفي زوجها قبل عشرين عاماً وهي في عز صباها وإنتظرت ان يكبر اولادها لتتزوج من آخر.لكن من قال ان المرأة تملك الكلمة السحرية بالموافقة او الرفض.تتعرض لضغوط اولادها، لتقريعهم وتهديدها بإشهار إنسلاخهم عنها وسلبها ملكية منزل العائلة إذا ما تزوجت.
أنجو ريحان في ” مجدرة حمرا ”
تتقلص معالم فطيم وهي تتلقى إتصال إبنتها التي للمفاجأة تبدو المحرضة لشقيقيها “لن نمشي بجنازتك إذا تزوجتي”تردد فطيم الكلمات لصديقتيها المفترضتين سعاد ومريم.
يتلون وجه إنجو ريحان كبهلوان لا يتقن سرد النكات، يتلعثم بالمآسي لكنه يضحك منها ويُضحكنا.
مسرحية ” مجدرة حمرا” تتواصل عروضها الاسبوعية كل ثلاثاء في مسرح مونو ، تُعرض أيضاً في مناطق اخرى، كانت قلعة الشقيف في محافظة النبطية الجنوبية إحداها مؤخراً،كما عُرضت في الإمارات العربية ولاقت ترحيباً ضمن عروض خارجية اخرى.
بنص متحرك يأسرنا المخرج والكاتب يحي جابر في “مجدرة حمرا” .
مبدع متعدد المواهب كما عهدناه بين الشعر والروايةالمنبثقة من السيرة والتوثيق لخبرات جيله.
في “مجدرة حمرا” يبقينا الكاتب والمسرحي يحي جابر أسرى لسعة تلك الصفعات المتتالية على وجه سعاد، تسقط علينا كحبل التوتر الكهربائي، تستنفر الشجن الكامن في دواخلنا.حكاية سعاد التي تمنعت عن الجنس مع زوجها بداية عملاً بنصيحة والدتها لتوحي له بعفتها،تمرست على الخضوع لعنفه اليومي.
المخرج يحيي جابر قبيل عرض “مجدرة حمرا “
يبوح يحي جابر بأنه هو أيضاً أسير هذا العنف المنزلي وهو طفل رضعه مع الحليب من أمه المعنفة على يدي والده.لكنه في ” مجدرة حمرا ” إنتقم للسيدات جميعاً.
لم تمت سعاد او تُقتل بتهم “الشرف”الملفقة، كما إعتدنا في حكايات الواقع المعاش ، بل هي طباخة ماهرة تقول لصديقتيها إنها فرمت البصلة بتقطيع موزون لتطعم زوجها كما كان يردد أمامها
” السّم الهاري “.
تركته معلقاً بين فتحة الشفتين لإدخال لقمة “السّم الهاري ” المُطعم بالمجدرةوإطباق الفم بإبتلاع لقمته.بلاغة ذاك المشهد سرٌ من أسرار المسرحية.كأن بالقاتلة الضحية ترفض المجاهرة بجريمتها حتى لو كانت دفاعاً عن النفس. في لحظة تجلي قوتها، إختارت أن تعود للظل ،هربت الى جلسة مع صديقتيها.
من تجلي قوة سعاد بضعفها، إستمدت المسرحية تسميتها من الطبخة الجنوبية الاشهر في لبنان “مجدرة حمرا” تتمدد على خشبة المسرح .
ملصق مسرحية ” مجدرة حمرا ”
خمسة اعوام تتواصل العروض للمسرحي والكاتب يحي جابر والممثلة المبدعة إنجو ريحان بزخم تصاعدي، تقول صبية في منتصف العشرينات بإنها تشاهدها للمرة الخامسة ولن تتردد بالعودة لمشاهدتها .
شاهدت المسرحية في ٢٠١٨ على “تياترو فردان” وشعرت اني أتلمس طريقاً جديداً لسيداتها اليوم،تعيدنا المشاهد لوجوه طفلات مغتصبات وسيدات قُتلن بضربة قاضية.
نلحظ تعديلات طفيفة لا ينكرها المؤلف وكاتب السيناريو المخرج يحي جابر.
تتماهى المسرحية الهادفة مع خشبة مسرح نخبوي، موصوف منذ تأسيسه.
يغرز الحوار المتخفي أُبرَه فينا تحت طبقة جلدنا العميقة، ينزُ من صور يومياتنا.
نخرج من عتمة المسرح منهكين بواقع يحاكينا.
في الطريق للخارج نصطدم بإبتسامة يحي جابر المتعبة التي يودع بها ضيوفه كما إستقبلهم،هكذا يبدو مبتسماً بحزن، كيف يبتسم من يفرد آلامنا دفعة واحدة دون ان يغيب عنه تذكيرنا بأن الدولار الاميركي يساوي ٩٢ الف ليرة؟
ينضم يحي جابر في ختام العرض بإلفة صديق الى إنجو ،في مشهد مكرر هو مكافأة كل عرض.
يقفز للخشبة بعد التصفيق الحار المتواصل تتكرر عبارة
” وجعتلنا قلبنا” يهز رأسه بتثاقل : “ألا يوجع القلب ما نعيشه؟”
إبداع يحي جابر يصلنا بلا زخرفات ،بإهتدائه قبل سنوات لموهبة إنجو ريحان، برعا معاً في إستدراجنا للتصفيق الحاد لكل سيدة معنفة تغلبت على قهرها وخرجت للعلن من كوابيس صمتها.
لا بد أن المسرح يختال على الواقع، يقفز منه وعنه ، يسابقُه بأشواط وقد يرمي بنا الى صور خارج المتوقع.
دلال قنديل
بيروت. ( موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي )
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل
هنا بعض الصور بعدسة هاتف الزميلة دلال قنديل :