في الذكرى السنوية الأولى لغياب د. باسل محمد علي الخطيب، ممثل منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو- UNIDO) ورئيس مكتب اليونيدو الإقليمي للشرق الاوسط و شمال افريقيا،
كَتَبَتْ الأديبة والمربية ذُكاء الحُرّ (أم باسل) : “بعد عامٍ على الغياب”
هكذا أنتم يجب أن تُحطّم الآلام قُشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة (جبران)
“بعد عام ٍ على الغياب”
حَوْلٌ على الغياب العلقميّ، حوّلَني مِزَقا ً، أشلاءَ كيان.
حَوْلٌ تَبعثر فيه الوعي و الأمان.
بعضي يمزج بعضي في بساتينِ الفناء و يباسِ الزمان.
ها قد امتصّ عجز الخذلان كلّ خلايايْ.
خانت الأبجدية بيان اللسان، فالنار والجة ٌ في دماي.
يا أمير الأناقة و اللّباقة و اللّياقة، كنت أول عهدي بالحياة الحياة.
وجودك أمطرني بالأمومة، بالحلم المُتوّج من حقيقة.
فصاحة طفولتك تَوَهّجٌ آسرٌ ينأى مسافاتٍ عن أيام وعيك. أسرار نبوغك و تَجلّي فرادتك جَمحَت بك إلى قمم الإبهار، و الإزهار و شدّ الأنظار.
سمرتك كانت ضوء خمرتي، وجهك كان و ما زال دفتري أقرأ فيه وجع الروح و الخيال.
عيناك الواسعتان انطوى فيهما كونٌ من الأشكال و الألوان و الصّور التي صَيّرَت العمق و الغنى غابات من الخضرة و الثّمار و الجمال.
عام مَرّ و آهات ليلي تمتدّ مساحاتٍ مساحات، و الجَوى أعاصيرٌ من ليل ظلماتٍ و ظلمات.
نَسِيَتني الوسادة منذ عام، و تَساوى ليلي بنهاري و كلاهما دامسٌ يَتلَفّعُ بنورك، و كأنّ الليل اختار حزني جلباباً.
بغيابك، توَقّف الزّمن، صَمَتَ الدّفق في الرّوح و في الشّرايين، صرتُ أهذي بحواسي التي تَتَلَهّفُ للمسِ وجهك و شمّك و ضَمّك.
أيامي راكدةٌ مشلولةٌ كأنفاسي و نبضي، لَياليّ تمتدّ حتى تُصافح البزوغ. لن أتَحرّر من أحزاني، شمسُ نُعاسِها لن تُشرق.
كيف لا؟ و أنت كوكب العمر المُضْنَى بالحنين و اللوعة، و قصيدتي الأحلى و الأغلى و الأعلى.
لوحة ” باسل _1978 ” بريشة والده الفنان الراحل محمد علي الخطيب
غيابك أفقدني الاتجاه، لذا تراني أُحَلّق كثيراً مع جناحي نجاحك المُبهر علما ً و أداء ً، و تواصلا ً و تكيّفا ً، خُلقا ً و ذكاء ً، جمال حضور و خصوبة بديهة، و فُجاءة في حسن التّدبّر لإكمال الطريق و اكتمال الهدف. تَمَجّدَ العمل عندك بالحبّ و الإخلاص و التّفاني و بذل النّفيس من جسدك و عَصَبِك.
كان اتقان العمل فاكهة أيّامك و ألذّ أطايِبِها.
أنت المُمتلىء ثقة ً و قدرةً و شغفا ً، كان فرحك الإنجاز و الإبداع مع الإنجاز، و زرع سنابل الخير و الحقّ و الجمال لإنسان هذا الزّمن العليل.
كان فرحي نُتَفا ً من فرحِك، و انتصاري في معركة الحياة خيطا ً من صدى انتصاراتك و نجاحاتك و تَفوّقك.
بغيابك احترقت ومضاتُ الفرح، و الشّغف صار رمادا ً تَتآكلُه أمواج المِلح. رياح الكآبة كالطوفان تُغرِق كلّ تَوقي للجمال و فنونه، الأيام ثقيلة ٌ، عاتية ٌ تمرّ على سطوح الحركة جسدا ً و فكرا ً. عصفورُ فرحي طارَ إلى دنيا فيها حلاوةُ البراءة و طُهرُ الصّفاء.
تَعِبَ الدّمع في المآقي، و ماؤه لم يَعُد يُنبِت زهرا ً بل سَهَرا ً و قَهرا ً و مُرّا ً.
آخرُ أغنيات صوتك الدافىء أطرَبتني بعطر ثقافتك الفلسفيّة، و بايقاع خطاك اللّاهثة نحو عمق الحكمة، و تَوهّج الفكر النَيّر، و إشعاعات الرّوح. لكنك ما زلت أنشودة أسمعها تُسابق النّخيل عُلُوّا ً و كِبَرا ً، ما زلت نهري الدّافق حبّا ً و طفولة ً، و قمري السّاطع من عليائه ايمانا ً و أحزانا ً، و إكليل آلام جُلجُلتي أسيرُ بها و معها و الأشواك تُدمي و تَرمي الخلايا بإبرِ الأنين من فرطِ الوجع.
رغم الغياب، ستظلّ في مدار بَصَري و بصيرتي، ذاك الجبين الأسمرالعَصيّ على جاذب المُغريات من جاه المنصب و عُلوّ المكانة.
رَحلتَ و معك كلّ عظمة التّواضع. رَحلتَ مع كِبَرِ إنسانيّتك الرّهيفة، و عَبقريّتك المنيعة، و فكركَ الوقّاد و خُلقكَ المُنَزّه. ما زلت أسمع صدى حنجرتكَ تَنطقُ الصّلوات و تُردّدُ أنغام ايمانك النّاصع. نامت عيناك قريرةً مطمئنّة ً، و عيناي ما زالت تَدمعُ و تَدمعُ، لا تَهجَع، تبكي روحها المُتفرّدة في نَعيم الجمال و الألَق. يُفجعُني الشّوقُ و يُدميني التّوقُ إلى رؤياك و لُقياك.
ضاقت الأرضُ، ضاقت الكلمة، ضاقت الذّاكرة، ضاقت الأشياء كلّها. نَبعي ظامىءٌ لجريان ماء و هواء يدفعان رمال الأيام الدّهماء في صحراء هذا الزّمن القاحل.
سلاما ً أيها الإبن اللّصيق الصّديق، أيها الفارس الرّقيق، أيها الشّجر المُثمر، أيها الزّهر النّضِر، سلامٌ لأبيكَ الذي أحبّك حتى الثّمالة، و الذي تَصدّعَ لفُراقك، و ما عاد يَحتمِلُ العيشَ في دنيا لست فيها، تَرَكَني مُيمّما ً نحوك لأنك حبّه و حُلُمه و فَلذَة ٌ من فَنّه و عبقريّاته.
سلامٌ من إياد و رنيم و هما ما زالا بين الصّحوة و الغفوة لا يُصدّقان أنك تركتَهمتا بدون ضِحكَتك الأبهى، و حُضورك الأشهى، و أخُوّتك الأزهى. ريان و رواد لهما أنت المِثال و الاكتمال و الجمال.
سلامي عابق ٌ بكلّ عشق الأمومة و فخرها بِذِخرِها الصّالح المُتميّز.
سلامٌ فيه أنين التّحيّة ساطع، فمع غيابك بلادك صارت كلّها مقبرةٌ للرّؤى و الأحلام و الطّموح. وطنك يا ولدي بعضُ وهم ٍ، و كثرةُ دَجَل ٍ و رُكاماتُ انحطاط.
أنت لك المدى، كلّ المدى، و هنا لا مدى للحقّ و الخير و الجمال و لا صدى.
لا هُدى في كلّ المسارات و لا شمعة لهُدى، إنه زمانُ السّغَبِ و الشّغبِ و التّعبِ، إنه زمانُ العَيبِ و الرّجمِ بالغَيبِ. بلدٌ حطامٌ، ركامٌ، ظلامٌ. بلدٌ وحشٌ كاسرٌ، و فحشٌ جاسرٌ، بلدٌ يَباب، سرابٌ، خرابٌ، غُرابٌ في كلّ ظرفٍ و حرفٍ. نِحَلٌ، مِلَلٌ، عِلَلٌ تأكلُ بعضها و يَأكلُها الخُواء. افتَتحتَ الرّحيل من هذا العالم الدّنيء و تَبعَكَ جَذرُ وُجُودِك أُبوّةً و إبداعا ً و خُلُقا ً و عظمة ً، ليكون وجه الله قِبلَتكما لا الوجوه الكالحة، المالحة، المُرّة. فخرجتُما مُكلّليْنِ بغارِ الإنسانيّةِ نُبوغا ً و فرادة ً. خرجتُما من جهنّمِ الوطن اليباب إلى فردوسِ العدل و حُسْنِ الثّواب.
ذُكاء الحرّ
جزء من لوحة الفنان الراحل محمد علي الخطيب يظهر فيها ولده باسل وزوجته ذكاء ( لوحة “أحبائي” عام 1983 )