التجربة الشعرية للشاعرة الفلسطينية ابتسام أبو سعدة..البحث في الذاكرة المثخنة بالوجع
( بقلم رئيس المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح الكاتب والمخرج حميد عقبي)
ثمة دهشة معمارية جمالية يتلمسها القارئ والمستمع لنصوص الشاعرة الفلسطينية ابتسام أبو سعدة ـ المقيمة حاليًا في مصر ـ وربما لأن الشاعرة تستمد الكثير من مخزونها الداخلي والذاكرة وتمارس رياضة البوح العفوية والتي تأتي كزفرات، بعضها ساخن وبعضها متقطع. هذه الدهشة قد تأخذ عدة أشكال معمارية، وقد لا تهتم الشاعرة بالتلوينات الجمالية أو لا تجتهد في الزخرفات الشكلية. سنشعر بالكثير من الوجع والهمس، وقد يصل الأمر إلى مرحلة الهذيان ومغادرة هذا الواقع والحياة بأكملها، كأنها تبعث لنا نصها من مكان آخر. قد تكون الشاعرة لا تعلم موقعها الحقيقي. ولنستشهد بهذا النص التالي :ـ
أخبريه حين أموت..
أن ثمة لاجئة تعبت من الشتات وحطت على صدره
امرأة تفتش بين أغصان الأشجار العتيقة على أحرفٍ
نقشها العشق قديمًا فلم تمت
تعبث بالأوراق اليابسة عن أثرٍ لقبلاتكما المختبئة خلف الأسوار
تخبئ آخر رصاصة يحملها مقاوم في صدرها.. سيُنهيها بها يومًا..
وأن ثمة موتًا يعيش في قلبي ولا يقتله..
أخبريه كم كان حزنه متورطا في حزني
وكم كان وجعه متوغلا في لحمي
كيف كنت أخيط الغرز المتفتقة من ثوب قديم ليربط بين روحينا.. فانقطع
أخبريه كيف اعتزلت وجهي وكفرت بشعري المهترئ على آخره
وكم أجهضتني أحلامي التي انتظرته فيها..
ولم يأتِ بعد.
قد يفسره البعض على أنه خطاب إلى الأرض والوطن البعيد المنال وهو تعبير عن الشوق والحنين الجامح ولو لحبة تراب أو غصن يابس لهذا الوطن، وربما توجه الشاعرة خطابها إلى القصيدة وهي توصيها وكأنها تخاف الانجراف إلى بنيات وكتل قد توصف بالجمال الشكلي وتكون فارغة من الداخل، هي لاجئة متعبة ولا تدعي أنها بخير وعلى ما يرام ولكن هذا البعد عن الوطن وألم هذا الحرمان لن يمنعها أن تشعر بهذا الوطن حية أو حتى بعد الممات، وهنا تستخدم مفردات وصور ربما من الخزين الوجداني من بقايا الحكايات مبتعدة عن ما هو مجرد استهلاكي وثمة دلالات توحي بصور غير مباشرة إلى وطنها فلسطين (أغصان الأشجار العتيقة، الأوراق اليابسة) وربما هذه الدلالات تصوير لحالتها وحالة الذين يعيشون في المنافي فالكثير منا يشيخ ويشيب مبكرًا في أراضي الشتات، مع ذلك فهي (تخبئ آخر رصاصة يحملها مقاوم في صدرها)..
تتغير المشاهد في نصوص ابتسام أبو سعدة وثمة انقلابات قد تحدث بوعي أو بغير وعي، تنقلنا إلى العمق حيث ثمة موتًا يعيش في قلبها ونستكشف أن هذا الموت أصبح متورطًا في عمق حزن إنساني وهو يتوجع لوجع هذا الجسد والروح وهنا تأتي محاولات الشاعرة لتعميق هذا الترابط وكأنها لا تطلب منا الشفقة عليها وأن نشاركها الشفقة على هذا الموت المتورط وتأتي دهشة هذا النص بتحويل هذا اللأمر غير المرئي والذي يثير خوف البعض ويهربون منه، هي تحوله إلى فيزيائي محسوس وملموس وتجتهد للترابط معه أكثر ليكون الترابط ترابطًا روحيًا وربما إبديًا.
الشاعرة ابتسام أبو سعدة
قصائد ابتسام أبو سعد، مجموعة من الرعشات في الروح والفم ولتكن القصيدة ذابلة أو خالية من الصناعة الشعرية فهي لا تهتم بالتصنيفات، ترى نفسها كطفل قد يتوارى ويختبئ ولو خلف حلم صغير وربما وراء ستارة هذا الحلم التي قد تنقشع بعد لحظة صغيرة. لنتأمل هذا النص.
يرتعش الكلام في فمي
يثبت قليلًا…
ويهتز كثيرًا
كلما لمحتُ طيفك
أرتعش كطفلٍ صغير
يتلعثم خوفًا من العقاب
يختبئ خلف ستائر حلمه
يبتسم قليلًا
ويبكي كثيرًا
تذبل القصيدة في فمه وترحل
دون أن يتلوها.
وقد لا نصدق أن من يكتب هذه النصوص شاعرة أنيقة وشابة ومبتسمة، وتصور لنا الموت وكأنه نوع من الأمان والسلام والراحة وهنا تعبير عن هموم جمعية لمن هم تحت الحصار ويتعرضون لأبشع أنواع التمييز والقتل ويقعون بمنطقة أبعد من الحياة وأقرب إلى الموت، لكن الموت قد يتكاسل ولا يلتقطنا كما يجب ونحن في حالة الألم والوجع، في نص قصير تقول :ـ
الموت رخصة المتعبين من هذه من الحياة
للآفلين من رحلة البحث عن الطريق إلى السلام
الموت حياة أخرى أكثر راحة بعد شقاء السنين المتراكمة خلف العبث
للتخلص مما فعلته الأيام بتجاعيد القلب الراكن إلى ما يسمى حب
رحلة البحث عن الأمان تنتهي بانتهاء نبضٍ
كان يظن سوءًا أنه حي.
الحالة الإنسانية المرهقة التي تصورها ابتسام أبو سعدة، تكاد تكون مجموعة من الأسئلة الصعبة وإن جاءت عباراتها بشكل خبري، وهذه الأسئلة تقلقنا جميعًا، نحن مع روح قلقة وهي هنا لا ترفض الحياة ما نسعى إليه وكل إنسان يجب أن نجد الخارطة الحقيقية المؤدية إلى الطريق إلى السلام والسلام أن نشعر بكرامتنا ونتنافس هواء وطننا دون خوف من رصاصة أو قذيفة أو سوط، إذن كأنها تقول هنا النبض وخفقان القلب وجريان الدم في العروق بدون الحرية والأمان هما وهما بالحياة.
اللاجئ والبعيد عن وطنه كمن يعيش نوعين من الحياة وربما يضطر أن يلبس أكثر من قناع، لكن ثمة لحظة سنحتاج فيها أن نُفرغ أثقال هذه الأقنعة من وجوهنا لأن ثمن بقاء الأقنعة باهظ ومرهق، وهنا تصور لنا جزءًا من برنامجها وتقول:
كل مساء
أخلع نظراتي اللامعة
أضع وجهي الباسم جانبًا
أثني هذا الطول المنتصب انتظارًا…
أفكك تراكيب فرحي المصطنع
أرتدي نَظَراتي الواهية
وعينيّ الزائغتين
أبتلع حبوبي اليومية
أتقاسم و وسادتي…
دموعي المتسابقة صمتًا
أخلد إلى كوابيسي الليلية
علها تخدعني
ليلةً واحدة فقط…
فتمنحني وردة حمراء
وحلمًا أبيض.
قد يكون لبس القناع سهلاً والأصعب هو خلعه والعودة إلى الروح وملامستها كما هي، وهناك محاولة للهروب إلى الحلم، فالحلم هنا ليس مجرد تعويض وراحة من واقع مثقل بالهموم، بل يعتبر أكثر صدقًا ووسيلة للتخلص من ما هو مصطنع وقادر على تغيير حتى القصيدة للتخلص من أي تورطات شكلية زائفة. الشاعرة لا تمارس الكتابة كوسيلة للصراخ أو البكاء، بل تنبعث منها أنوثة تتدفق في كل نص، سواء كانت عبر صورة أو مشهد قصير.
خاتمة في عالم ملتوٍ ومتغير ولا يأبه بالضعفاء، تنتصر الشاعرة للألم الجماعي وتغترف من الحكايات والذكريات البعيدة والقريبة لتعيد خياطة ثوبها (الجسد والروح) وتربطه بالوطن. ولا يُشترط أن يكون النص مملوءًا بالرموز والمفردات المروية والمستهلكة، شاعرتنا تنظر بنظرة الطفل إلى الصدر الذي يحتضنها، وقد تهذي أو تستمع لهذيان يأتي من بعيد. وهنا نجد أن مخيلة الشاعرة لا تكتفي وتستدعي ما قيل عن الوطن، هي في بعض النصوص تستغل مخيلتها لترسم أشجاره وزهوره وحدائقه وتصور نفسها ممزوجة فيه وليس هو الجغرافيا البعيدة والممنوع عليها أن تلمس ذرة تراب منه وفيه، هي تتعايش معه، فهي الكنعانية إلى النخاع والفلسطينية جسداً وروحًا وليس مجرد ثوب أو وشاح مزركش يوضع على الصدر في المناسبات
الكاتب والناقد حميد عقبي