“الكاـــــــــب الأخرس”
بقلم: د. بسّـــــــــام بـــــلاّن
-×-×-×-×-×-
كلّما تفكرت في شؤون العالم العربي من شرقه إلى غربه.. ومن شماله إلى جنوبه، أتذكر كلب المختار الأخرس!
نعم؛ الكلب الأخرس الذي عرفه أهل قريتنا وعايش قصصه حينها الكبار والصغار، وملأت الأقاويل عنه كل المجالس والمضافات حتى ذاع صيته في القرى المجاورة، لدرجة أن الناس نسوا اسم قريتنا الأصلي وصاروا يطلقون عليها اسم: (قرية الكلب الأخرس).
شخصياً أتذكر الكثير من القصص التي رويت عنه؛ كيف لا وقد صار فزاعة الكبار والصغار. أما قصة هذا الكلب فلا تخلو هي الأخرى من الغرابة والطرافة في آن.
هو شقيق لأبناء كلبة المختار الأربعة، الذين ولدوا معاً في ليلة باردة، حسب رواية المختار، حيث لفت انتباه أهل الدار يومها أن جرواً من الجراء الخمسة يحاول العواء كما إخوته؛ فيفتح فمه ويرفع رقبته إلى أعلى ويشّد على نفسه.. ويحاول ويحاول، ولكن من دون جدوى. على ذمة المختار، ولأن الله عز وجل لا يتخلى عن مخلوق من مخلوقاته، فقد لقي هذا الجرو عناية خاصة من أمه.. وسخّر له أهل الدار جميعاً، فكانوا يشفقون عليه أيّما إشفاق.
مرت الشهور وكان يكبر مع إخوته، و(حالته الصحية) كما هي لا تتغير. ولأن دُور العناية الطبية كانت غير كافية للبشر في ذلك الوقت، فإن الحديث عن عرضه على (طبيب بيطري)، كان ضربا من السخرية واللامعقول، ناهيك بأن السيدة بريجيت باردو كانت في تلك الأيام مشغولة بجمالها وفنها وأناقتها واصطياد المخرجين والمنتجين؛ فلم يكن معروف عنها بعد اهتمامها بالحيوانات واستعدادها لتكسير الدنيا من أجل آلام قطة أو كلب تعرض لركلة من مستهتر قاسي قلب.
المهم؛ لا أمل ولا رجاء، فالحالة ميؤوس منها ولا رد لقضاء الله.
مرت الأيام وكبر الكلب وتعوّد الجميع عليه هكذا.. ولأن كل ذي (عاهة جبار عنيد) كما تقول العامّة، بدأت تظهر على هذا الكلب مظاهر غريبة غير مألوفة في أي نوع من الكلاب؛ السلوقية كانت أم الجعارية. (فصاحبنا) كان يمضي نهاره نائماً في أكثر الأماكن عتمة وتمويها ونادراً ما يخرج إلى الناس في وضح النهار. إلى هنا وكل شيء طبيعي وغير ضّار بأحد، أما الواقع فكان غير ذلك؛ فقد تطورت حالته من مجرد وجودٍ مُهملٍ إلى أن أصبح أساس البلى والأذية في القرية كلها.. فقد أقّض مضاجع الجميع وأصبح مصدر الخوف في طول القرية وعرضها، خاصة بعدما عضّ العشرات من الناس فأصابهم بالكَلَب وأدخلهم المستشفيات وأقعدهم فترة طويلة عن أعمالهم ومشاغلهم. فالناس، خصوصا أهل القرى والفلاحين لا يخافون الكلاب؛ ويكاد بيت لا يخلو من واحد أو أكثر منها، ولكن في حالة “كلب المختار الأخرس” الأمر مختلف جدا، لأنه ينقضّ على ضحيته من دون أن يصدر أي صوت أو تحذير، فلا عواء ولا تهمير ولا هم يحزنون؛ والضحية لا تشعر به إلا بعدما تكون أنيابه قد فتكت بساقها أو خاصرتها أو يدها. أما الشيء الأخطر أنه لا يهاجم شخصاً إلاّ إذا كان وحيداً، ولم تحصل أبداً أن باغت شخصين أو أكثر معاً، سواءٌ في الليل أو في النهار.
يوماً بعد يوم راحت الحوادث تتكرر والضحايا تزداد والكلب الأخرس يترسخ ذعراً في عقول الناس، وخوفهم منه يكبر كما كرة الثلج. وما زاد الطين بِلّة خيال الناس، الذي جعل منه أسطورة؛ فهو تارة بحجم جمل وأخرى ينقضّ كالنمر على الضحية وثالثة هو غضب من الله على الناس ورابعة وخامسة.. الخ.
أمام هذا الواقع، تبرع كثيرون من شبان القرية لقتله وتخليص البلدة وأهلها منه، ولكن هيهات؛ فقد كان يزداد شراسة ومهارة في اصطياد ضحاياه كلما استشعر خطراً .. وكم واحد من هؤلاء (الأبطال) خرج إليه قاطعاً العهد أمام الكبير والصغير بأنه سيعود برأس هذا الأخرس اللعين، وبعد غيبة قد تطول أو تقصر يعود إلى أهله على الرمق الأخير بعد أن يكون طريده قد تمكن منه وقام بالواجب تجاهه.. أو أنه يتأخر فيدب الصوت في البلدة فيخرج الناس للبحث عنه فيجدونه مغدوراً بعضّة ومغمى عليه؛ فيهرعون به الى المستوصف وهو بين الحياة والموت.
…….
في واقعنا العربي لو أمعّنا النظر لوجدنا المئات من هذه الكلاب الخرساء تستلذ بنا عضّاً ونهشاً، حيث لا تكاد تخلو منهم مؤسسة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية عامة أو خاصة.. حتى أننا نجدها في المؤسسات ذات النفع العام والتطوعية وفي البرلمانات وصفوف المُوالاة والمعارضات، لدرجة أصبح معظم الدول العربية يسير عكس اتجاه مسار الأمم والشعوب الأخرى جرّاء هذه البلوة.
لنتأمل واقعنا برأس بارد.. ولنسأل:
-أليس الفساد الذي لا تكاد دولة عربية تخلو منه، هو كلب أخرس ينقضّ غدراً على مقدرات البلاد وشعوبها؟.
-أليست الطائفية كلب أخرس أنهك المجتمعات العربية وأشعل الحروب في البيت الواحد وأهلك الزرع والضرع؟.
-كم كلب أخرس يصول ويجول في شوارع حواضرنا العربية يروّع أهلها دون حسيب أو رقيب ودون أن يتمكن أحد من وضع حد له، بعد أن كانت هذه الحواضر قبل عقود فقط منارات علم وتنوير وأمثلة تحتذى ثقافياً وعلمياً واقتصادياً ومعرفياً.. فأصبحت مكبّ نفايات ومنابع فقر ورذيلة وضياع؟
ولنتأمل وقائع أخرى، وكلها صادرة عن مؤسسات إقليمية وعالمية مرموقة، ثم لنفتش بعد ذلك عن الكلب الأخرس فينا:
– حسب إحصاءات العام 2022، نحو 25 في المئة من عدد سكان المنطقة العربية (15 سنة وما فوق) يعانون من أميّة أبجدية، أي أنهم لا يقرأون ولا يكتبون.. (نحو 100 مليون شخص) وهي النسبة الأعلى في كل أقاليم العالم.
– باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، ارتفعت مستويات الفقر في العالم العربي خلال العام 2022 مقارنة بالسنوات الماضية، وبات ثلث المواطنين العرب يعيش تحت خط الفقر.
– الأمية التكنولوجية والتقنية، وفجوتها المريعة بين غالبية الدول العربية، في الوقت الذي بات العالم يتهيأ لمرحلة ما بعد الذكاء الاصطناعي.
– معدلات البطالة في الدول العربية لاتزال هي الأعلى بين نظيراتها في العالم.
– الفجوة الغذائية في الدول العربية لاتزال تتسع، رغم خصوبة الأراضي الزراعية التي تمتلكها ولا يتم زراعة أكثر من ثلث هذه الأراضي.
– غياب الخطط التنموية الشاملة التي من شأنها أن ترتقي بالمنطقة من كل النواحي، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي التي بدأت تعمل بجد واجتهاد لمرحلة ما بعد النفط وتنفذ خططاً طموحة للمستقبل مستغلة إيراداتها الضخمة من النفط والغاز.
– سوق الكتاب في العالم العربي لايزال في حالة ركود ممتد بسبب سياسات التهميش الممنهجة من نصف قرن وحتى الآن، ليصبح الكتاب أسير الكرنفالات والمعارض السنوية لا أكثر.
– يشكل العرب نحو 5 في المئة من سكان العالم ولا يطبعون أكثر من 1,1 في المئة من إنتاج العالم في مجال الطباعة.
– يترجم العرب أقل من كتاب واحد سنويا لكل مليون من السكان، بينما تترجم المجر وحدها 519 كتاباً لكل مليون من سكانها.
ثمة كلب أخرس بل قطيع منه يقبعون في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا في بيوتنا كلب أخرس إن لم يكن أكثر، وفي الأحياء التي نعيش فيها العشرات منه وفي المدارس والجامعات والأسواق.. ولابد من الاعتراف أولاً بخطورة هذا النوع من الضواري و ألاّ نتركه يزداد شراسة، ولابد من كشفه وهو جرو صغير قبل أن تقسى أنيابه ويصبح جاهزاً للانقضاض علينا في كل وقت ومتى شاء .
همسة:
رغم كل ما للكلب الأخرس من أخطار، إلاّ أننا يمكن أن نتلّمس فيه إيجابية مهمة جدا؛ ألا وهي العمل والوصول إلى الأهداف والغايات بصمت.. ومن دون ضجيج وشعارات واستعراضات جوفاء.
والمثل الاسباني يقول: الكلب الذي يعض لا ينبح!
د. بسِّام بلّان