أماكن خاصة ( الحلقة 10 ) :
بناية الغلاييني
بعد ترحيل الفلسطينيين من بيروت، رحلت معهم إيداعاتهم المالية في البنوك. إنهارت العملة الوطنية. وإشتدت الأزمة على البلاد. تعثرت أسباب الحياة علينا. وصار الشاطر منا، من يفتش عن ثلاثة أعمال، حتى يؤمن عيشه، في ظل حرب، فتحت فجأة علينا بطرابلس. أطلت علينا الحرب الضروس، بين عسكريين سوريين والمنظمات الفلسطينية. وبين منظمات في جبل محسن وأخرى في باب التبانة. وكان في ذلك جولات وجولات، بطرابلس. واحترقت المصفاة. وتمددت الحرائق، إلى سائر المؤسسات، حتى بتنا لا نستطيع الخروج من بيوتنا. ولا الذهاب إلى مدارسنا، ولا فتح أبواب البنوك والفروع الجامعية. صار كل شيء إلى الإغلاق. إشتد الحصار على المدينة التي كانت تعيش في كنف أبو عمار والشيخ سعيد شعبان. صارت مدينة طرابلس، لخمسة أمراء. صار مجلس أمراء طرابلس، هم حكام المدينة. وخرج دولة الرئيس رشيد كرامي إلى دمشق. صار الناس يتدبرون رؤوسهم بأنفسهم. صاروا يلتفتون إلى خصخصة الإنتاج. صار الموظفون في القطاعات العامة والخاصة، يبحثون عن التجارات. أو عن الأعمال الحرة، حتى يستمروا على قيد الحياة.
هذة هي الظروف الموضوعية والمادية، التي حرضتني، للبحث عن عمل خاص، إلى جانب وظيفة المدرس ووظيفة الأستاذ الجامعي، ووظيفة الكاتب والصحفي والإعلامي. كنا نعيش كل يوم بيومه. دون أن ندري إلى أين تقودنا الأيام، في ظل التدهور التراجيدي للعملة الوطنية، وفي ظل إنقطاع المعاشات.
نزلت إلى الشارع، بعد أن صرنا نبيت في الملاجئ، مع جميع العائلات. صرنا لا نستطيع الحصول على رواتبنا، بعد أن انقطعت بنا المدينة. بعد المجازر التي حلّت في حاراتها. في ساحاتها. في شوارعها. فأخذتُ القرار، بفتح تجارة مستعارة من أهلنا : كان لنا مخزن بسيطة بالقرب من البيت. من ملجأ البناية المجاورة، بعد أن هجرنا بنايتنا، التي كانت مقابلة لخطوط التماس. وبعد احتراق المصعد. وبعد احتراق شقتين، في البناية التي كنت أسكن فيها. وبعد تكسير وتحطيم جميع واجهات البناية.
حملنا إلى مخزننا المستحدث، في ظل الحصار، رفوف الحوانيت. رفوف المعارض. رفوف الدكاكين التي أغلقت في الأسواق. صرنا تجار أحذية في الحارات. صرنا باعة الحارات. صار يدخل إلينا التلاميذ وأهلهم ممن ظلوا في المدينة، لشراء حاجاتهم من الأحذية و الملبوسات.
نجحت في تجاوز الأزمة بعد أعوام. تمرنت: عائلتي وأنا، على التجارات. خرج أبو عمار من المدينة. وأخلى الأمراء مناصبهم. غادروا جميعا. ما عرفنا إلى أين. لملمت طرابلس جراحها. دفنت شهداءها وقتلاها. وإشتدت علينا أسباب الحياة، بعد تدهور العملة الوطنية من جديد. صار الراتب الجامعي بحدود ثلاثين دولارا. صارت جميع القطاعات مثل بعضها صاروا يقبضون رواتبهم، بقدر ما كانت رواتب عمال التنظيفات.
إستتب الأمن بطرابلس، التي كانت لسنوات قد خرجت عن الدولة، بعودة القوات السورية إليها. جمعت مبلغا من المال، ونزلت إلى المدينة. إلى شارع الثقافة. طلبت مخزنا صغيرا، هربت إليه، البضاعة المختزنة في بيتنا. و التي كنت أخشى عليها من الإحتراق، بسبب إشتداد القصف، قبل إنبلاج فجر السلام في المدينة.
بعد أسبوع، أو أسبوعين على الأكثر، خرجنا مهجرين من المدينة، إلى بلدة عندقت. إحترق البيت، وإحترقت الغرفة التي كانت مخزنا للبضاعة. فنجونا بها في المخزن الذي كنا إنتقلنا إليه، في بناية الغلاييني، بشارع الثقافة، في وسط المدينة.
كان ذلك المخزن في بناية الغلاييني. فألا سعيدا علينا. صار مأكلنا ومشربنا في مخزن هذة البناية. لأنها كانت بعيدة عن خطوط التماس. صار مخزننا في بناية الغلاييني، قارب النجاة لحياتنا. وصار محلا تجاريا لنا، في وسط المدينة.
شيئا فشيئا، كانت طرابلس، تخرج من الحرب إلى السلم. عادت الحياة إلى المدارس والجامعات. وعادت رفوف الواجهات تمازج بين صناديق الكتب، وصناديق الملبوسات و الأحذية. صارت الفوط ومنافض الريش، تمسح كل يوم غبار الشارع. غبار الشوارع غبار الساحات والحروب عن الرفوف، بلا تمييز بين حذاء ثمين. وبين كتاب نفيس. صار المخزن يجمع بين الخسيس والنفيس، مثل كل معارض الحرب، أو ما بعد الحرب، أو ما بعد بعد الحرب في المدينة.
كان الطلاب الجامعيون، كما الأساتذة الجامعيون، كما مدراء الجامعة، كما تلاميذ المدارس والثانويات، يأمون مع أهلهم مخزننا في بناية الغلاييني، يفضلون الخروج، بكيس فيه حذاء، على الخروج، بكيس فيه كتاب. كان معظم الناس في المدينة يعرفون بعضهم. وكانوا -في طرابلس- أحوج إلى الحذاء، منهم إلى الكتاب، في ظل مدينة بصفة بلد تعيس.
بعد نهوض الحياة الجامعية، في مرحلة التسعينيات، كان مخزن بناية الغلاييني، لم يعد يطيق الإستمرار في الجمع بين الكتاب والحذاء. تحسنت الأحوال المعيشية. وإنفتحت المدينة على البلاد. وعادت الحياة إلى الجامعات. صار أساتذة اللبنانية محسدين بين سائر القطاعات. فكان القرار بعد عشرة أعوام، من كنس جميع صناديق الكتب، وبيعها لتاجر البسطة على النهر، بمبلغ زهيد، لا يتجاوز الألف دولار. وفي اليوم التالي، تحول المخزن إلى مركز ثقافي. صارت صناديق الكتب، تزحف على صناديق الملبوسات. تحتل مكانها على الرفوف شيئا فشيئا. هكذا فرغت الحياة في المخزن، ببناية الغلاييني للكتاب. للقراطيس. للندوات. للصحف. للمجلات. فما مضى العام، أو أقله، إلا وصارت رفوف الكتب إلى السقف. وصارت التختية، قبوا علويا، لتخزين الصحف والكتب والقراطيس. إحتلت الكتب جميع الرفوف على الجدران. وجميع النوافذ وجميع السلالم. وصار العمل على تحديث المخزن، بل تحويله لمكتب. بل تم تحويله لمكتبة. كان التواصل بينه وبين مكاتب العالم، من خلال الهاتف. ومن خلال الفاكس.صارت الثقافة العربية، كما اللبنانية في المكتبة، في المكتب، في متناول اليد.
كان المكتب يبيت على الزجاج الخارجي. أنزل إليه ليلا، لأتابع تحضير المقالات والمنشورات. لأتابع التدقيق والتصويب. لأتابع التحقيق في المخطوطات وفي المدونات.
خرجت من أبواب المكتبة، بل المكتب، في بناية الغلاييني، بشارع الثقافة، عرائس الكتب والمجلدات. وعرائس الموسوعات. عرائس المقالات. عرائس المؤلفات. بل عرائس المجلات.
في مكتبتي في بناية الغلايين، بشارع الثقافة، بطرابلس، كان يؤمني الأساتذة الجامعيون، طلبا للإستشارة، في وضع خطة لبحث جامعي. أو لتصويب بحث جامعي. أو للمساعدة على تدقيق كتاب. على تأليف كتاب. على طباعة مقالة أو كتاب.
كان الزملاء يحتاجون إلى المشورة. كانوا يحتاجون إلى المعونة. كانوا يحتاجون إلى الإرشاد والتوجيه. فما كانوا يجدون في المدينة غير هذا المركز المخصص للمجلة و للكتاب.
كان المكتب معقد آمال طلاب الجامعات. يؤمونه من جميع الأمصار. من جميع العواصم. من جميع البلدات. ومن جميع المدن. خصوصا، بعدما نجح في إمتحان، “بيروت عاصمة عالمية للكتاب”.
إحتضنت مكتبتي الخاصة، في بناية الغلاييني، “مركز البحوث والتنمية المستدامة”. نال أول إجازة عمل على هذا العقار، لهذة الجمعية المؤسسة. كان المركز يحضر للإجتماعات الثقافية. وللأعمال الثقافية وللخدمات الثقافية. وللمشاريع الثقافية.تماما كما كان يحضر للعمل الوطني الثقافي، بإمتياز.
تشارك مركز البحوث والتنمية المستدامة، مع جميع الجمعيات والأندية والمراكز الثقافية في طرابلس والشمال. كانت له شخصيته المستقلة المميزة. وحين شعرت بقرب إسترداد المبنى، هرعت إلى عميد كلية الفنون والعمارة، وإلى رئيس الجامعة اللبنانية. وضعت المركز بين أيديهم حفاظا على تراث ثقافي عاش لأكثر من خمسة و ثلاثين عاما، في بناية الغلاييني، في شارع الثقافة، بطرابلس.
في مركز البحوث والتنمية المستدامة، ببناية الغلاييني بشارع الثقافة، بطرابلس، دبّجت و حررت أكثر من عشرين ألف مقالة. حررت أكثر من ثمانين كتابا. حررت أكثر من خمس موسوعات، وأصدرت مجلة “نشر بحث”. ففاقت أعدادها العشرين عددا، على مدار أقل من عشر سنوات.
وحين سلمت المبنى لأصحابه، تم نقل كتبه وأضابيره وموسوعاته ومخطوطاته، وجميع مكونات أرشيفه وصحفه ومجلاته، بشاحنة عظيمة. إتخذت من مبنى البيت، مكتبة خاصة، بمركز البحوث والتنمية المستدامة. سجلته على عقار عائلتي، حتى يصح “العلم والخبر”. وصدر في الجريدة الرسمية. كان ذلك يوما مشهودا. وفي اليوم الثاني، كنت قد سافرت إلى ميامي. بل إلى “ميامي بتش” في فلوريدا بأمريكا. كنت صنعت هناك معجزة ثانية.
د. قصي الحسين
استاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين