وقائع 48 ساعة في السجن..
بقلم: د. بسّام بلاّن
-×-×-×-×-
السجن كان حقيقياً.. رغم أن الأبواب مفتوحة على مصاريعها، والطرقات سالكة وأستطيع أن أتناول أي طعام أريد، وإن لم أشتهِ ما في البيت أذهب الى أي مطعم أريد أو أطلبه جاهزاً الى حيث أكون.
السجن كان حقيقياً.. رغم أنه باستطاعتي دخول الحمّام متى شئت، واستسلم للقيلولة في الصالون وأخرج للحديقة الأمامية أو الخلفية من المنزل لأعتني بالورود..
السجن كان حقيقياً.. رغم حريتي الكاملة في أن أركب سيارتي وأتجه الى حيثما شئت، الى المول أو الصالة الرياضية أو المقهى الشعبي أو الكافيه الإفرنجي.. أو الديسكو.
السجن كان حقيقياً.. رغم أن جواز سفري في جيبي وكذلك البطاقتين الشخصية والمصرفية، وأستطيع بكل حرية الصعود للطابق الثاني من البيت لأفتح على أولادي أبواب غرفهم وأتفقدهم في النهار والليل أو عند الفجر.
سجن عشت بين جدرانه رغم أنني لم أرتكب أي مخالفة قانونية.. ولم أمثل أمام وكيل نيابة أو قاضٍ.. ولم يدعِ أحد عليّ.
أمضيت أوقاتاً صعبة جداً يملؤها الإحساس بمرارة الوحدة والعزلة والشعور الصادم بالغربة.
بصراحة لم أجرب السجن من قبل، ولكنني عشت في تلك الأوقات كامل أجوائه، مع الفارق بين سجني ذي الابواب المشرعة والسجن الحقيقي بأبوابه العالية المصفودة وفتحاتها الضيقة المغطاة بشباك فولاذية.
حدث كل ذلك عندما اكتشفت على غفلة من أمري أن هاتفي الذكي أصابه مرض طارئ.. حاولت أن أعرف ما الذي حلّ به، فلم أستطع تشخيص حالته ومعرفة إن كان قد أصيب بسكتة دماغية أو جلطة شريانية.. أو إلتهاب حاد في العصب السابع.
أسرعت به الى أقرب “مستشفى” يعمل فيه استشاريون من كل الإختصاصات. استقبلوني بكل اهتمام وأخذوا “المريض” مني وبدأوا معاينته بتفاصيل دقيقة. وبعد نصف ساعة قالوا لي لن تستطيع اصطحابه معك الآن.. سندخله العناية المركزة ليومين أو ثلاثة، وإن شاء الله بعدها سيتجاوز محنته.
-ماذا؟!!… يومين أو ثلاثة.. هل أنتم إستشاريون أم مجانين؟؟! صحت بهم.
تقدم كبيرهم مني وقال لي: الخيار لك في النهاية، بإمكانك اصطحابه معك الان كما هو على حاله.. أو إن شئت خذه الى مشفى آخر.
في نهاية الأمر، وبعد أخذ ورد استمر وقتاً ليس قصيراً، وجدت نفسي مذعناً لهم.. فلا حلول أخرى.
غادرت المستشفى، وما أن وصلت الى الباب الخارجي حتى عدت إليهم مسرعاً. فتحت باب غرفة العناية المركزة دون استئذان.. وخاطبتهم بلغة أمرِ وترجٍ في وقت واحد: من فضلكم اهتموا بدماغه.. أخاف أن يصاب بفقدان ذاكرة وهذه مصيبة بالنسبة لي أكثر مما هي بالنسبة إليه. هزّ الاستشاري المشرف على حالته رأسه.. وأومأ لي بإبهامه بما يعني أن أطمئن ولا أقلق. إبتسمت بوجهه ابتسامة خائف.. وغادرت.
وما أن وصلت الى الباب حتى رأيتني أعود مسرعاً مرة أخرى من حيث أتيت. فتحت باب غرفة العناية المركزة، وبدون إلقاء التحية على الأطباء والاستشاريين.. بادرتهم بالقول: من فضلكم انتبهوا الى قلبه. ففيه الكثير من مشاعري وذكرياتي. لايعنيه شيئاً إن فقدها.. ولكنني قد أصاب بجلطة إن اصاب قلبه شيء. إياكم أن يتضرر جهازه العصبي أو التنفسي. إياكم أن يصاب جهازه الهضمي بأي سوء. أرجوكم لاتبخلوا عليه باقصى درجات العناية.
ردوا: إطمئن يا سيدي.. نحن نعرف عملنا جيداً. إذهب الى بيتك واسترح. وكل شيء سيكون على مايرام.
سألتهم: وكيف ساطمئن عليه؟
قالوا: إطمئن من الآن.. وعندما يتعافى سنتصل بك لتأتي وتستلمه. ولكن ليس قبل يومين.
خرجت.. ولا أعرف كيف ستمر عليّ 48 ساعة.. ريثما أعود واستلمه.
خلال تلك الساعات دخلت السجن. نعم، سُجنت لثمانٍ وأربعين ساعة..
أصرخ كالمجنون: أين الواتس أب.. اين الفيس بوك.. اين الماسنجر؟؟!
تخيلوا أنني أمضيت ثمانٍ واربعين ساعة بعيداً عنهم. لم استمع الى رناتهم. لم تصلني إشعاراتهم أو “إيماجات” الوجوه الضاحكة ولا الباكية أو الساخره.. ولا شارات النصر أو “الأوكي”.. عشت ثمانٍ واربعين ساعة كاملة بلا مسج مكتوب أو “فويس ماسج”.. ولا أي شيء من هذا!!
ثمان وأربعين ساعة شعرت خلالها بالاختناق أكثر من مئتي ألف مرة. وكل مرة كنت أنجو بإعجوبة.
وبعد مضي هذه الساعات العصيبة، جاءتني البشرة.
على الطرف الآخر من الخط كان صوت كبير الاستشاريين، قال: كل شيء على مايرام ياسيدي. بإمكانك المجيء إلينا لاستلام “مريضك” وها هو بأتم الصحة والعافية.
قفزت من مكاني كمن مرّت من أمامه أفعى وأسرعت الى الباب.. ركبت سيارتي وطرت إليهم بأقصى ما تسمح به سرعة الطريق. وبعد عدة كيلو مترات، اكتشفت أنني لبست في قدمي فردتي شبشبين، والأدهى أن كل واحد منهما كان بلون مختلف. ومن مقعدي خلف مقود السيارة رحت أتفقد ملابسي إن كانت لائقة. فلم أكن متاكداً قبل ذلك بأي هيئة خرجت. ولحسن الحظ أنها كانت لاتخدش الذوق العام على الأقل.. بإستثناء ما في قدميّ أجلكم الله.
وصلت الى المستشفى.. أخذت موبايلي الذكي جداً، وما أن وضعته في يدي حتى تفتحت أمامي كل أبواب السجن الذي كنت لتوي أعيش خلف جدرانه.
نعم يا سادة.. جميعنا.. أو غالبيتنا أسرى هذا الكائن الذي يقولون عنه ذكياً. أسرٌ سنفقد الجزء الأكبر من أدمغتنا وقلوبنا إن خرجنا منه.
وسلامي لكم.. أخبرناكم عنّا، فأخبرونا عنكم.
د. بسّام بلّان
هذا هو الواقع رغم الحاجة لهذا الجوال الا انه سرق ادمغتنا وجمد أفكارنا وجعلها متهالكة كمن يدمن التدخين او ماشابه ذلك شكرا لك دكتور مقال رائع من صميم الواقع المرير