أماكن خاصة/ الحلقة 9
بيت الحساسين
-×-×-×-
أتحدث عن تلك الغرفة التي كانت ملأى بأعشاش العصافير. بأعشاش البلابل والحساسين. كانت الأقفاص مدلاة من السقف. كان سقف الغرفة، قد اختفى. كانت أجنحة الأقفاص الصغيرة والكبيرة، لا تترك لعيني، فرصة التحديق في سقف الغرفة. كانت الأجنحة الصغيرة، التي تغزل رفرفاتها المتمهلة: السريعة و البطيئة، لا تجعل أنظاري تستقر في السقف. سرعان ما كانت تهبط بها إلى فضاوات الأقفاص. تحمل الغرفة كلها، تطير بها إلى الحقول والبراري. إلى الغابات. إلى الينابيع. إلى الشطآن. إلى الأنهار. وتجعل الغرفة خلفها أرضا بلا سقف.
نزلت العصافير من قريتها، ذات مرة. نزلت من البلدة الكتاب. نزلت من “الشحيم”. طارت ذات يوم دفعة واحدة. طارت وراء أمها. إتخذت أجنحة صغيرة، حتى لا يشعر أحد بثقلها. بتثاقلها. وهي تحمل معها غابة من الصنوبر. أجمة من العليق. حقلا من البنفسج. واديا. تلة. أيكة. قرية. كانت تطير بها خفية، إلى بيت أمها. كانت قد صنعته لها قرب الحرج. حرج الصنوبر. بين معبرين معتدلين: البربير والمتحف. قبالة قصر الصنوبر. خلف قصقص، وميدان سبق الخيل، في محلة رأس النبع. خلف شارع محمد الحوت. تدلف إليه من أزهار بلوط. أو من جميع الجهات التي تأتي منها. فكل الجهات قريبة من القلب، في بيروت.
كانت غرفة الحساسين معلقة في الطابق السابع.ليس فوقها إلا الروف. تنظر إليها الحساسين، من تحت إلى فوق. لطالما حدثتها نفسها عن الطيران دفعة واحدة، والحط على غصون وترابين الشجيرات المتبقيات من حرج الصنوبر. تطير إليها من الروف. هل تذكرون أنتم، صنوبر بيروت! كان ساحة خضراء. كان نجمة خضراء. كان أجنحة العصافير والحساسين والبلابل، والحمام واليمام. كان مجمع أجنحة. مجتمع أجنحة، لجميع أجنحة الطيور.
تعلق قلبي، بتلك الغرفة. غرفة الحساسين. قبالة قصر الصنوبر. قبال الحرج. حرج الصنوبر. كنت أستيقظ قبل السحر. أرتدي ثوبي على عجل. وأنتعل الطريق من طرابلس إلى بيروت. كنت أنزل على المفرق الأخير من البربير. وأغذ سريعا في الخطو. ربما نزلت فجرا، ماشيا، من أبي سمراء إلى التل، لأختصر المسير. لطالما كنت نهما لإلتهام الدرج. الدرج الواقف، بين أبي سمرا، وباب الرمل. كنت أريد أن أسابق نفسي. أن أطير العصافير من نومها في قصر الصنوبر. في بيروت. كنت أريد، أن أسمع زقزقاتها من أذن الباب. كانت الحساسين تنشد لي نشيد الصباح. تزقو لي وهي تحبو إلى الباب. كانت تريني كيف تتعلم الطيران. كيف تطير.
كانت الحساسين تضرب وجهي بأجنحتها. كانت تضرب قلبي. كانت تعلمني فن الطير. حين ترفرف في قلبي. حين تطير. كان ذلك فنا من فنونها.
كانت غرفة الحساسين، أكثر ما تشدني إليها. ترى الريش الملون يملأ الأرجاء. ترى تطاير الزغب. ترى الأنفاس والآهات والدمعات، تسيل معا على خدود الورود. في غرفة بلا سقف. في غرفة بلا أرض. في غرفة الفضاء في غرفة من أثير.
لطالما كنت أطير مع الحساسين. لطالما كنت مثل الرجل المعلق في الفضاء. كنت مثله خارج الزمن، حين اصل من طرابلس، إلى بيت الحساسين. كنت أفكر فقط، بالحساسين كيف تطير في الأقفاص مثلي. كنت مثل قفص يحمل جميع الحساسين في قلبه. يحمل جميع أقفاص الحساسين. ثم يحاول أن يطير.
كان بيت الحساسين. كانت غرفة الحساسين. كان البيت كله للحساسين. كان، يا ما كان. صنعته لهم أمهم من نثار الورود، قبالة قصر الصنوبر. تريد لهم أن يتعلموا كيف يطيرون في الآفاق حين تحدو لهم من بعيد. وحين غادرتهم على عجل، أودعتهم ريشة صغيرة من ريشها. كانت تلك علامة إلى الطريق.
أمسي رحلت وراء الحساسين. رأيتهم قد حملوا الفضاء وفروا به، خلف أمهم. رأيتهم كيف يرقصون تحت جناحها. كان جناح الأم لهم، أهزوجة. أغنية. تزقو لهم. ويزقون لها. وكان الأثير يحمل لهم كل صنوبر بيروت. معلقا على حبل الغسيل. كل هواء رأس النبع. كل “دفاتر الشحيم”. كل سماء الصنوبر، إلى السرير. سرير مونبلييه، في البعيد البعيد.
ذهبت إليهم، ذات يوم، من بيروت إلى مونبلييه. كانت الطريق قصيرة. أقصر من طرابلس إلى بيروت. كانت عنقا. مئذنة. كانت طوقا من ورود و صنوبر وأجنحة حساسين، بين وريد ووريد. كانت عقدا بين بيتين للحساسين. تتوسطه الشحيم، الكتاب: بيت الحساسين.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين