زاوية ” السبت الثقافي ”
بقلم : الكاتبة والاعلامية دلال قنديل :
سعيد ناشيد في “لماذا نعيش؟”
العودة الى حديقتنا الداخلية ومواجهةالاقصاء بالتأمل.
-×-×-×-×-×-
تسعى الفلسفة للتأمل بكيفية تفكيك لغز الوجود وتنظيم أفكارنا في البحث عن إجابات تُشبع حيرتنا بأسرار نجهلها.
جميل ان نعثر على كاتب لا يمل من طرح السؤال، من الف باب وسبب ، يدخلنا متاهة البحث ولا يتركنا عالقين فيها يخرج بخلاصات للمضي قدماً في المعرفة.
الكاتب سعيد ناشيد منذ كتابه الشهير ” التداوي بالفلسفة” هو واحد من هؤلاء ، يطل علينا في كتاب جديد صادر ايضاً عن دار التنوير بعنوان إشكالي آخر: ” لماذا نعيش؟”
كم من المرات اوصلتنا الازمات للحظات ضيق جعلتنا نشعر بثقل أيامنا،وربما وصل الامر بأن تراودنا الرغبة بالراحة الابدية قبل اوانها للتغلب على مسيرة الآلام.
في كلمة تعريف الناشر على غلاف الكتاب إشارة لتجربة الكاتب الريادية في مواجهة الحياة لعيشها، كأنه يقدم لنا وجهاً من وجوه النص :”بعد مرحلة من التعرّض للاتهامات والأذى بسبب أرائه وكتاباته ، بلغ الأذى الى طرده من عمله في أصعب الظروف.ومع أنه استعاد وظيفته بعد أن تحوّل طرده قضية رأي عام …كان لا بد لتلك المرحلة الصعبة عليه وعلى عائلته أن تجعله يتأمل فلسفة العيش، فوقف سعيد ناشيد امام السؤال : لماذا نعيش؟ وكان هذا الكتاب الذي يهديه الى الخاسرين الذين أضاعوا الوقت في التأمل، فتأخروا في الطريق،ثم فاتهم القطار…”
غلاف كتاب سعيد ناشيد الصادر عن دار التنوير في بيروت
تلك الجمل التمهيدية المحفزة للتعاطف والتفهم لقضية الحريات العامة والدفاع عنها نستكملها في الصفحات الاولى يَرِدُ في الاهداء:”الى الخاسرين الذين لم يسابقوا المدرسة الى المراتب الاولى، لم يسابقوا في المهنة المناصب العليا، لم يسابقوا في الصلاة الى الصفوف الأمامية ، لم يسابقوا في الحياة الى الخيرات والفُتات، ولم ينافسوا أي أحد على أي شيء.”
يفكك سعيد ناشيد يومياتنا بتفاصيل منهكة، لا يتركها بلا طائل ، يجدل تركيبته عليها في رسم الاسئلة مستنداً الى تحليلات فلسفية من مدارس الوجودية والرواقية ونيتشة وديكارت وشوبنهاور وغيرهم.
لافت في كتاباته الذهاب في نهايتها الى خلاصات يصح نسبها له بالذات.كما كان يصح أن يسمى الكتاب” هكذا تعاش الحياة”.
يستشهد بالعظماء:”كتب ميشيل دي مونتاين صاحب (المقالات) عن صديقه إتيان دولابويسيه صاحب(مقالةفي العبودية الطوعية)،مبرراً صداقتهما التي وُصفت بأنها من أعظم الصداقات في تاريخ الفلسفة بعبارة مقتضبة: “ذلك لأنه كان هو ، ولأني كنت أنا.”
…” بعد أن يخسر الخاسر كل شيء يبقى له حق واحد وأخير، بيد أنه حق أساسي بالنسبة لمعايير الحياة ، إنه الحق في أن يكون هو هو.خسر ديوجين كل شيء، ….وقال فيه الاسكندر الأكبر : لو لم أكن الاسكندر لوددت أن أكون ديوجين.”
في خلاصاته يشدد اولاً على فهم السؤال حتى تأتي الاجابة من تلقاء نفسها.يمكننا صوغ المعنى الحقيقي للسؤال لماذا نعيش الحياة؟ على نحو: الى اين تدفعنا الحياة؟
يقر بأن الحياة جزء من قوانين الفيزياء التي تحتفظ بالكلمة الأخيرة ، لذلك يبقى قدَرُ الحياة هو المقاومة…نولد بقوانين الحياة ونموت بقوانين الفيزياء والكيمياء، لذلك يبقى الموت معطى غريباً عن الحياة التي لا تستطيع أن تستوعبه.
يفكك يومياتنا سعيد ناشيد في رحلة العبور الى خلاصاته موجهاً الكائن البشري لتقويم ذكائه وتنميته بدل التخلي عنه، كل واحد منا ينمو ويكبر وفق قدراته وقدره. بوسع كل واحد أن يساهم في نمو الحياة بأسلوبه وبَصْمتَه، بل كل واحد منا عبارة عن ورشة إبداعية مفتوحة في طور الإنجاز، أو في انتظار الانجاز بما يلبي نداء الحياة.” إن أثر رفرفة فراشة في مكان ما ، ضمن شروط معينة، قد ينتهي بعد قرن طويل الى حدوث إعصار في مكان آخر.”
رؤية الكاتب تستند الى واقعية ملموسة يلتقطها من شذرات حيواتنا .
تلك الخسارات المبنية على تجاسر كسر التقليد في سبل العيش هي ملاذنا الآمن لصنع حياة تليق أن تُعاش.
كذلك تندرج الفصول في زرع الروح الايجابية فينا وتحفيز تعزيز المدارك بالوعي .
تحطيم القوالب، التأمل بالثوابت، خط الكتاب مساراً مليئاً بالاستشهادات والدلالات، يتلاءم مع فكرة تعميم الخير للآخرين في السعي لإكتمال الذات النموذج، ومغادرة آلامنا بالتمرد عليها.
” الحياة تعاقب وتجازي، وهذه أدلتي بالتالي، أستلهمها من تأملاتي في الحياة وحياة الآخرين، وأبسط خلاصاتها للعبرة ولمن يعتبر: أعرف أشخاصاً تخلّوا عن حبيباتهم غباءً، فعاقبتهم الحياة بحنين يوخز القلب في كتمان الى آخر العمر .والحنين المكتوم جحيم أعظم.”
” في الكون لا توجد إلا الذرات والفراغ “، هكذا يقول ديمقريطس قبل خمسة وعشرين قرناً…تحدث الاشياء من خلال الصدفة والضرورة…تتجاذبان، تلك هي الضرورة، لكن أن يتشكّل من ذلك القانون عدد من الذرات فهذا يحتاج الى قدر لا متناهٍ من المصادفات.”
التفلسف وسيلة للعيش نكتشفها مع سعيد ناشيد كاتب أطلَ علينا بكتابات ركيزتها عالمية سعى الى تجاوز تعقيدات تعابيرها بلغة مفهومة من العموم، بترجمة أفكارها، المعدلة، الى يوميات معاشة.. تلك ميزة لا بد أن نسجلها له ولأمثاله من الكتاب الذين شقوا سياقاً خاصاً , إستندوا لمدارس عدة ، بنوا من خلاله إستدلالاتهم من المعاش في بلداننا العربية حيث مغامرة الحرية باهظة الاثمان قد تصل الى السجن او النفي وصولاً الى القتل.
يستعين الكاتب بزرع الحديقة الداخلية التي وردت في خاتمة رواية كانديد لفولتير (حديقة كل واحد منا هي مجاله الذي يستطيع أن يزرع فيه شيئاً لا مرئياً مثل البذور الصغيرة، فكل البذور تكون لا مرئية في بادىء الامر.)يستند بقوله هذا الى أسلافه ليُكون ثمرة ناضجة.
كلما نبشنا في تربة الفكر أزهرت عقولنا وتفتحت، وكلما أسلمنا مفاتيحها للآخر ، بشرياً كان ام دينياً او اصطناعياً بتنا نشبه تلك الروبوتات التي تُدربُ لتدير عقولنا بما يناسب تفوقها.
فهل من فرص واقعية كي ننازع اليأس بالتمرس على فنون العيش البسيطة، وبإلانصهار الايجابي للأنا في الكل؟ما اصعب تلك الوصفة!
لم يقلل الكاتب من صعوباتها لكنه بالتجربة قال إنها ليست مستحيلة .
هذا الكتاب ،بين ايدينا، نتاج فترة إقصائه بسبب فكره ، زمن إستخدمه بالتأمل والتجربة والخلاصات.
كان بذلك يقدم مدلولاً آخر على شيء مخالف للسيرة المعهودة في الكتابة.تمكن من أن يصهر تجربته الشخصية في خدمة الجماعة.
إستجمع قواه بالعودة الى ذاته وأخرج لنا تحفة جديدة من بواطن أسئلته ليقول ببساطة إن الحياة بصعوباتها …ممكنة وليست مستحيلة.
نختم صفحات الكتاب الاخيرة (٢٢١) ونغلقه على امل العودة اليه تلبية لرهان سعيد ناشيد الذي يقول إن أمله سيخيب إن لم نكرر قراءة كتابه،قراءة واحدة لن تشبع نهم الباحث او السائل، وهو محق الى حد ما فحجم الدلالات التي اعتمدها في سياق تحليله ستبقى موضع تدقيق وتفحص كلما واجهنا سؤالٌ مصيري.لعل الكتاب الذي يمضي لخلاصاته مسترشداً مدارس فلسفية عدة، يقدم دليلاً آخر على تكامل القراءة والكتابة، على تراكم الفكر في بناء الفكرة وبلورتها.
مع خاتمة دعوة الكاتب لقراءة ثانية، لا بد ان يراودنا السؤال عن الفارق بين الوعظ والفلسفة؟هل يمكن أن نتبين متى يصبح الكاتب واعظاً في مقاربة تجاربه بخلاصات يعممها على قرّائه، كوصفة طبية تُصلح النفوس وتُحررها من مخاوف الحياة والموت وما بينهما من قضايا العصر الشائكة؟.
ثمة سؤال يلح علينا بالمقابل ، ما هي فحوى عبورنا في حال لم نترك على الطريق أثراً؟ ألسنا من يتزود بتراث العمالقة من العابرين قبل قرون مضت فماذا نترك لأبنائنا؟ ودون ذلك ما هو معنى الوجود وبالتالي”لماذا نعيش” ؟.
دلال قنديل
ايطاليا.
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل