السبت الثقافي مع الكاتبة والاعلامية دلال قنديل :
حيدر حيدر بين المنفى والعزلة
غريب عن ثقافة السائد
-×-×-×-×-
الكاتب حيدر حيدر
الجوائز لا تصنع كاتباً كما لا يمكن إختصار نتاجه الادبي بكتاب واحد مهما عظمت أهميته والنقاشات التي قد يثيرها .
في طريق المبدع علامات فارقة تتبعُها يرسمُ خطاً متأصلاً لخصوصية حضوره.
تأملنا بحزن قبل حين الرحيل الهادىء للكاتب العربي العملاق حيدر حيدر ، شاهدنا صورة كلبه الوفي امام ضريحه، تلك الصورة التي نشرها نجله الناشر الدكتور مجد بعد يوم على “مغادرة الفهد الى ملكوته” كما جاء في نعيه على فيسبوك. أمام تلك الصورة ..
صورة ضريح الراحل كما نشرها نجله
بعد إنعزال الكاتب الطوعي في السنوات الأخيرة يراودنا السؤال عن فحوى العزلة ومغزى الانكفاء لكاتب إنشغاله بالفكر تجلى بنتاجه، حفزت افكاره نقاشات،دفعت أنصار التكفير وأعداء الحرية للتظاهر منعاً لنشر كتبه كما حصل في مصر بعد نشر روايته الأشهر
” وليمة لأعشاب البحر”.
تلك الرواية الجريئة،بلغتها المغزولة بأدب رفيع وحبكة جميلة،شكلت حالة فكرية، خلقت جبهات متقابلة بين قرار المنع إستناداً الى تكفير كاتبها وبين مناصري الحرية للادب والتنوير وكان بينهم الدكتور الكاتب جابر عصفور الامين العام للمجلس الاعلى للثقافة المصرية الذي اعتبر عام ١٩٩٩ ان الرواية تحفة أدبية وأن دعاة منعها اعتمدوا أسلوب” لا تقربوا الصلاة”…ولم يكلفلوا انفسهم عناء قراءتها.
جملته تلك تستحضر ذاك الحوار الذي جرى في الجامعة الاميركية في بيروت في نيسان ٢٠٠٨ بين المفكر الراحل الدكتور نصر حامد ابو زيد وأحد مناصري تكفيره، المحاضرة كانت تحت عنوان
” التأويل الانساني للقرآن هل هو ممكن؟” وذلك إستناداً لكتاب نصر حامد ابو زيد الشهير “فلسفة التأويل” المندرج في الدعوة لإعمال العقل في الدين .
إنبرى شاب من بين الحضور صارخاً بوجه الدكتور نصر :
” لعنة الله عليك وعلى كتابك ، أنت ملحد وكافر”.هدأ الدكتور نصر من روع الحضور الذين حاول بعضهم تطويق الشاب خوفاً من إقدامه على إعتداء يتخطى كلامه الاستفزازي. سأله يومها الدكتور نصر حامد ابو زيد بصوته الهادىء وإبتسامته المعهودة “يابني إنت قريت الكتاب ؟ “
من مؤلفات حيدر حيدر
كان ذلك الطالب المتحمس لجماعته التكفيرية صادقاً، فأجابه :”كلا، لكني سمعت ما قيل فيه.” فأجابه الدكتور نصر مانعاً أصوات السخرية التي صدرت في القاعة: ” لا تمنح الآخرين فرصة أن يختصروا معارفك بما يناسب أفكارهم.إقرأ الكتاب ولتكن لك نظرتك فيه.وسأكون حاضراً لمواصلة نقاشنا ساعة تشاء”.
عاد الهدوء للقاعة وإنتهت تلك المحاضرة بتصفيق حار وحفاوة إستثنائية كان يلاقيها الدكتور نصر كلما زار بيروت التي أحبها.
وهكذا لم يقرأ المتظاهرون ضد حيدر حيدر روايته، لكنهم دعوا لتكفيره. رواية” وليمة لأعشاب البحر ” كانت ايضاً قد مُنعت في دول عدة.
بعد سنوات سُمح بدخولها لمعارض الكتب وبيعت علناً في المكتبات.تضاعف الاقبال عليها بعد رفع الحظر رغم ما حققته من إنتشار متجاوزة قرار المنع. الرواية أعتُبرت مرجعاً لكونها رسمت سقفاً عالياً في تجاوز المحظور يمكن لأجيال وأجيال الاستناد اليه.
بعد تجاوز كل محظور نسأل: ماذا لو لم يتجرأ الكاتب على تجاوز عتبة الرقابة الذاتية اولاً والمفروضة من السلطة ثانية؟.
ترك الكاتب حيدر حيدر مهنة التدريس في دمشق والجزائر وإمتهن الكتابة والصحافة الثقافية لحين في بيروت وقبرص وباريس قبل أن يعود لملاذ عزلته، للمنفى بحثاً عن النور الداخلي.
في مجتمعاتنا المنقسمة على ذاتها ماذا يبقى للمثقف الاصيل من امثاله سوى القليل من الوفاء في تتبع دربه.
في وداع كاتب كحيدر حيدر لا بد ان نتلو أمامه عجزنا عن حمل إرثه الثقيل في تحفيز التجارب للمضي في التجريب، في التخلي عن المناصب والجاه وتصدر اللقاءات والمنتديات المعلبة لملاقاة حريتنا المطلقة.
” يوميات الضؤ والمنفى” الصادرة عن دار “ورد” لصاحبها نجله الدكتور مجد حيدر،تأخذنا في الطريق المتعرج الذي اختاره حيدر حيدر لمواجهة الطائفية والتعصب والقمع والحرب .
ذاك المتمرد بترحاله من مسقط رأسه قرية حصين(ولد عام ١٩٣٦) في محافظة طرطوس الى دمشق وبيروت وقبرص وباريس والجزائر وباريس وغيرها..
الجزائر وبيروت محطتان مفصليتان في بلورة تجاربه، الاولى إستوحى منها كما يبدو للمتلقي روايته “وليمة لأعشاب البحر” التي تروي حكاية شيوعي عراقي فرَّ الى الجزائر والتقى بمعشوقته.وكان الكاتب في العشرينيات عندما شارك في تعريب الجزائر وزرع بذور الثقافة العربية ودعم ثورتها.
أما بيروت فكانت ملهمته، شارك الكاتب حيدر حيدر في نهضتها الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بإنخراطه في دعم القضية الفلسطينية ونشره عام ١٩٦٨ في مجلة الآداب اللبنانية احدى اولى أعماله الادبية
” حكايا النورس المهاجر”.
نعثر على بعض من سيرته في
كتابه الصادر عام ٢٠١٦ عن دار
ورد” المفقود” ، موضحاً بين سطوره اسباب إنقطاعه ما يقارب ثماني سنوات عن الكتابة بعدما ضاق ذرعاً بما يدور في الوطن العربي في زمن ملوك الطوائف منتقداً المثقفين واليساريين والتنويريين الذين شيدوا قصوراً في الهواء.بهذه المرارة إستهل كتابه بقصيدة ” الغريب”.
كأنه كان يتلو علينا وصاياه بعد المنفى وقبل العزلة وما بينهما.
كان صوت حيدر حيدر صادحاً،بالتمرد والرفض وتعرية السائد وتخطي المحظورات،
ونبذ العصبيات، لكن من كان يلتقط الصدى؟
كاتب تأتي كتاباته زاخرة بإنفعالات وعواطف مشحونة بتلك التجارب.
الكاتب المتمردالذي غادرنا قبل حين حيدر حيدر، عاصر التجارب في السنوات الاخيرة بالإبتعاد، هذا موقف ايضاً.
العزلة هي رفض للواقع، هي تجلي رفض الواقع والبحث عن نقيضه.
من يترك لقراء العربية رواية ك”وليمة لأعشاب البحر” لا يرحل ، ما دامت تتفاعل فينا حتى اليوم العواصف التي إجتاحتنا يوم قرأناها منذ زمن.
لم تهمه الجوائز وكان محقاً في ذلك كما المبدعين الحقيقيين الذين لا يأبهون بها، لكنه حاز على درع غسان كنفاني للرواية العربية عام ٢٠٢٢ ونال جائزة لوكارنو السويسرية وجائزة مهرجان دمشق للسينما الجديدة.
دلال قنديل
روما
الكاتبةوالاعلامية دلال قنديل