أماكن عامة ( الحلقة 5 ) :
بيادر الصفطلي
-×-×-×-×-×-
كان القمر قد تأخر قليل، فوق تلك التلال العالقة، بين الأرض والسماء. التلال التي طمعت كثير بهواء الوادي، فإنبسطت فوقه تسرح شعابها، وتفتح صدرها للأنسام، الآتية من فوقها ومن تحتها. كانت حقا ملعب الرياح، على مدار العام.
كنا مجموعة من الصبية، التي تلعب في الحارة، لعبة الغميضة، حين أنبهنا أحد الرفاق الأكبر سنا، إلى أن القمر عالق فوق بيادر الصفطلي. ودعانا لنحمل القصبات التي نركب عليها، ونعربش إلى الجبل الغربي المقابل لقريتنا، نهره، نرميه إلى الأرض. ونأتي به إلى ملعبنا. نجعله لعبة لنا، بين الألاعيب التي نلعبها. بين المقالب التي نلهو، بل نتسلى بها.
رنت بيادر الصفطلي لأول مرة في أذني. وإلتفتنا، رفاقي وأنا، إلى جهة القمر. كان حقا، لا يبعد عن رأس تلك التلال، المتعانقة، إلا مقدار قصبة، أو قصبتين.
أذكر أننا أسرعنا بقصباتنا إلى بيادر الصفطلي، نريد أن نقطف القمر، كما تعودنا أن نقطف، رمانة حمراء، طمع بها الصبية الشاردة. كنا كلما تقدمنا في الطريق إليه، نراه كيف يهرب قدامنا. نراه كيف يتعالى. نراه كيف يبتعد عنا.
كانت بيادر الصفطلي، حارة القمر. يؤب إليها، حين يؤوب صبية الحارات والتلال والبيادر والدروب، ألى بيوتهم، في أواخر الليل. كانت، كأنها من كتف جبل، أمالها فوق الوديان. وإنحنى الجبل على ذراعه، يقطف القرى. يقطف النجوم. يقطف الشمس في النهار والغمامات البيضاء في الصيف، والغمامات السوداء في عز الشتاء.
رأيت كيف تمط بيادر الصفطلي أجفانها، إلى الجلول القريبة والبعيدة. إلى الكروم والبساتين والحقول، من حولها. وكانت أنظارها لا تعود إليها، إلا مع رفوف الطير. مع رفوف السنونو. مع رفوف اليمام. مع رفوف الحمام.
كان سهل البقيعة، كانت أراضي مشتى حمود ومشتى حسن والعوينات والخالصة وشدرا،كلها تقطف مواسمها في الصيف. وتأتي لتودعها، بيادر الصفطلي، في عرس جماعي، تحتفل به جميع القرى معا. كانت بيادر الصفطلي، قد خصخصت نفسها، قبل عصر الخصخصة. فهذا بيدر العدس وذاك بيدر الفول. وذياك بيدر القمح والذرة. وبجانبه بيدر الشعير والترمس والسمسم والكرسنة. ولا تزال بيادر الصفطلي، توسع صدرها لكل مواسم القرى.
كانت القرى كلها تصطف، تصطاف، على بيادر الصفطلي. تضرب لها بيوت الشعر، من أوائل أيار، حتى يسحب الصيف أذياله، في شهر تشرين الثاني. كانت بيادر الصفطلي، أكثر ما تخشى، حين تغدر بها السحب، وتسحب أغمار المواسم، إلى النهر الجائع قربها. أو حين يصرخ الوادي: كفى أنا جائع!
كانت بيادر الصفطلي، مجمع القرى. ما رأيت في حياتي، أعظم من تلك اللوحات التشكيلية، التي يطبعها الفلاحون والمزارعون وملاك الأراضي الواسعة، على بيادر الصفطلي، حين ينيخون الجمال وحين ينزلون عن ظهرها الأحمال. حين يعسعس الليل. ويحين يتصحصح الفجر، وحين يتنفس الصبح على صدرها.
كانت مواقد النيران، تشتعل قربها. كانت نسوة القرى، يحملن القدور العظيمة. يملأن الجرار والخوابي. يسلقن الحبوب. يوزعن خيرات القرى كلها، على بيادر الصفطلي، فلا يطير طير فوقها، إلا ويأخذ الحب بمنقاره. ولا يمر بدوي أو أعرابي، أو عابر قرى، إلا ويحمل في كيسه، ذادا من خيرها.
كانت منازيل الوجهاء والمقدمين، تضرب، فوق بيادر الصفطلي. فترى الدروب إليها، تسيل بالناس، من الصباح حتى المساء. كانت الجموع إليها، مثل مسيل الجداول. لا تنقطع عن القهقهات ولا عن الكركرات، ولا عن نقر الدفوف، ولا عن الغناء والميجنا.
بيادر الصفطلي، كانت مجمع القرى. تأي إليها من الأقاصي. ترى الدواب تصطف، مثلما تصطف اليوم، الشاحنات الصغيرة. تحمل فوق ظهورها، الأكياس المعبأة بدموع الحقول. تحكم مزادتها، حتى لا يفلت عراقها، فتعود الحبوب إلى حقولها.
دروب متعرجة، هي الدروب إلى بيادر الصفطلي، تكاد تقطع الأنفاس، في الصعود إليها، من بطون الوديان، ومن سفوح الجبال الرعناء. وتفر القرى، كما تفر الأيدي إليها.
عرائس صيف، كانت بيادر الصفطلي. ترى البيارق تلوح للطير من بعيد. نصبت لها فزاعة، حتى لا تنصب عليها. كانت الرايات وكذا الفزاعات، من علامات البيادر. كل بيدر له ناظر، ينظره، حتى لا تطمع العين إليه. كانت عيون الطير، مثل عيون الثعالب، مثل عيون الدبب، تبصبص من بعد. تلصص حرامية الأفياء، التي تتمسكن على الطرقات، وتحتال حتى تغير، على البيادر، في غفلة العين. كانت بيادر الصفطلى محط محاجر العابرين والساكنين،والمتنزهين والسائلين. محط محاجر كل العابرين بها.
د. قصي الحسين
( أستاذ في الجامعة اللبنانية )
د. قصيّ الحسين
.
من بيادر الصفطلي إلى بيادر الذكريات، تتسلل أفكارنا إلى ربوع الماضي و مجاريه. نسبح و نغتسل من لوثات يومياتنا المفجعة. و نخلع عن نفوسنا و أنفاسنا أردية العصبية الرديئة .
فرصة نسترجع فيها بعضا من طعم الحياة.
مرشدنا و دليلنا في هذه الرحلة ،كاتب اديب خبر الحياة في براءة الطفولة و في التزام الرجال و إنجازاتهم.
كل التحيات للصديق الدكتور قصي الحسين.