عرائس الطفولة
(ديوان صوفيا، لناجي بيضون نموذجا)
أربعون أغنية، كتبها الشاعر ناجي بيضون لحفيدته صوفيا، في هذا الديوان الراقص، كباندول الساعة. هذا الديوان الراقص، كسرير الطفولة. قصائد مغناة، هي أشبه بأغاني ترقيص الأطفال. تلك التي إعتاد عليها الناس في جميع مجتمعاتهم، منذ القديم وحتى اليوم، لدى شتى الأمم والشعوب. حين يضجرون بأعمارهم. يريدون أن يرشوا عليها ماء الطفولة. يجددون ماءتها، لتنتعش بذلك قلوبهم، فلا تكون عرضة للجفاف والإنكسار والعطب، إذا ما لحقت بهم بعض شالات من شمس غيوم الغروب.
ترى الموضوعات تتداعى في هذة المجموعة الخيالية. مجموعة القصائد التي كان ينشدها الشاعر الرقيق، ناجي بيضون. ينشد في كل منها بعض ما يعتمله القلب من فرح ومن حب ومن إغتباط. بولادة طفلة بكر، إسمها صوفيا، لأبنه البكر كريم. فكان أن شغف أبو كريم بها أي شغف، وهام بها أي هيام. وحملها ورقصها على يديه، تماما مثلما يرقص سرب من اليمام، على غصن سرو. على غصن قلب، حين تغرب الشمس، ويدخل العمر مبتدا عصر الأفول: (ناجي بيضون. صوفيا. دار الفارابي- بيروت-2017. 120 ص. تقريبا).
عرائس الطفولة كلها، إجتمعت في هذا الديوان الذي يتفرد بالغبطة والسرور والفرح بمولود، كان ينتظره الشاعر،حتى يملأ به كيانه ماء. حتى يصير روضا، على جنبات نهر الحياة. فلا أجمل إذا؛ مما يطيب للجد أن يقوله للحفيد. أن يرقص به الحفيد. فما بالكم إذا ما كان الحفيد: الطفلة البكر. من ولده البكر. فأحرى، آنئذ للشاعر الجد، أن يهيم في برية الصوت. يجدد نفسه. يضائل شخصه. يترنم بالقصيد. يطلق الأناشيد، حتى يسمع الكواكب والنجوم. وحتى ترن ضلوعه طربا. حتى يغني ناي نفسه، عند كل هجوع. إذا ما آذنت الشمس بالأفول عند كل غروب.
” سأسافر في عينيك/ وأغرق/ يا نهر الأحلام الأزرق/ الدرب طويل/ عنوان الحب/ وزمان الهدأة والصخب/ يا نهر الأحلام الأزرق/ سأسافر في عينيك/ وأغرق.”
بهذة القصيدة، بهذة الأبيات الرقيقة. بهذا الشعور الراقي، يفتتح ناجي بيضون “ديوان صوفيا”، معلنا إنغماره ببحر من الحب، لإبنه البكر، الذي لا يساويه أي حب. وقديما قيل: “من يذق ير.”
غلاف ” صوفيا ” لناجي بيضون الصادر عن دار الفارابي
فجأة تنفجر جرار الخمرة. فجأة تنفجر جرة العمر. ويطيب للشاعر ناجي بيضون، أن يسيل به الشعر على قدمي الطفلة البكر صوفيا. فلا يدري بين يديها، أيهما أقدام البكورة، أيتها أيدي الشعر. كريم وصوفيا والشاعر بينهما، قصب ريح. قصب يهزه الزمن. قصب يهزه العمر. يهزه سرير العمر. يجعله يصدح بأغاني الطفولة يهدهدها المهد. بأغاني ترقيص الاطفال، التي عادت إليه، كلما كان يرقص صوفيا بين يديه.
” كانت تعبر/ فوق الدرب/ كانت تملأ/ حضن الأب/ فتح الباب/ ودخل الدار/ وراح يرحب/ بالزوار/ كان يغطي/ كف الأم/ قالب حلوى/ غرست فوق القالب شمعة/ حضن الجد/ ذراع العم/ ملأت صوفي/ حضن الأم/ نفحت مثل الأم الشمعة.”
كثيرة هي الموضوعات التي طرق الشاعر بابها، يريد أن يذكي بها ناره. يريد أن يعطر بها دثاره. يريد أن يتوشح بها، كما الشمس، حين يهم زمنها بالأفول. يريد أن يبني فوق قوس قزح، دارة للطفولة الملونة. تغني للقمر تصنع له أرجوحة. تدعوه أن يلعب معها. مثلما كان يلعب القمر دائما منذ قديم الزمان، مع وجوه الأطفال، جيلا بعد جيل. حين ينزلون معا، في بركة الماء في بركة المساء. في بركة العيد. فتبتل الخدود وتبتل معها السراويل و الفساتين. وتشتعل المناديل، من دموع الزهور. تطير. تهفو. تسيل إلى حيث هو، يغني: أضاع الحفيد حضن الجد. أضاء الجد سرير الحفيد.
” أخذت صوفي تركض/ مع قطتها/ فوق دروب البستان/ كان الجد يراقب صوفي/ كان يخاف كثيرا/ أن تتعثر فوق الأشواك/ كان يرابط/ مثل الحارث/ خلف الشباك.
حرية صوفي في عرف الجد/ أهم كثيرا من/ أوهام الجد.”
ليست الطفولة ملعبا واحدا. ولا معبرا واحدا. ولا عودا واحدا. ولا أغنيةواحدة. ولا أهزوجة واحدة. الطفولة عند الشاعر ناجي بيضون، ملهى العمر. تراه يلهو بالشعر، تماما كما يلهو الفارس على قصب الريح. كلما غنت له الريح، غنى لها. كلما جرحته الريح، باح لها. كلما رمته الريح راقصا على زجاج القلب، جرحته التباريح. الشاعر ناجي بيضون، في ديوانه، أربعون أغنية لحفيدتي صوفيا، يراقص عمره، صنوبرة صنوبرة، وكوزا كوزا. يهز صنوبرة العمر بكفه.يهز غصن القلب. غصن الزمان، يزهزه صنوبرة العمر، حتى يقدم للضيفان طبقا ناصعا من دموع الصنوبر.
“ليتني أصبح حرا/ مثل صوفي/ ليتني أرسم كلماتي/ وأغني حروفي/ مثلما تفعل صوفي.
ليتني أجلس/ فوق العشب/ألهو/ يأكل العصفور/ من كفي/ قمحا/ مثلم تجلس صوفي/ ليتني أركض/ في إثر الفراشات/ طليقا/ مثلما تركض صوفي/ ليتني أرجع طفلا/ أودع الأحلام/ في أحضان أمي/ مثلما تودع/ صوفي…./ ليتني أرجع طفلا/ أقطع العمر/ وأرميه/ على أقدام صوفي.”
ناجي بيضون، يهز سرير الطفولة على عوده الأخضر. على قوس قزح. حين يزهزه صوفيا،حفيدته التي رقق حروف إسمها، حتى ذاب ألف الشوق شمعة في عيدها الأول. صارت بعينيه: صوفي يداعبها، كما تداعب النسيمات في الكرم، تربينة من حبق. كما تهدهد النسيمات أزاهير البنفسج. كما تلون شمس الصباح خصيلات شعرها. رق الشاعر على عود صوفي أنبوبة من عطر. من عطر حديقة العمر. لم يعد يرى، من العمر، إلا جنباته، حيث تتكئ الطفولة على كتفيه، مثل حول. تغفو، على رنين دف. ومزمار روح. ونشيد بوح، تحشرجه يداه. تهتفان بصوفي. حفيدته. مثلما يسحق الطيب، في الزجاج المنكسر.
“أهدى الجد/ حفيدته صوفي/ شتلة زيتون/ تشبه أعمار/ الأطفال.
غرست صوفي/ الشتلة/ في البستان/ قريبا من/ أشجار التفاح/ كانت تفرغ/ رضاعتها/ فوق الشتلة/ كي تسقيها/ كل صباح
يلعب عمر الطفلة/ مع عمر الشتلة/ يتبارى العمران”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين