أماكن عامة/الحلقة 4 / حريصا
كانت تجمعنا صلات صداقة ومودة وعشرة عائلية لأعوام طويلة، مع عبدالله الغول وعائلته، منذ الخمسينيات. كان من عساكر المخفر في قريتي بمشتى حسن، على الحدود مع سوريا. وكان يسكن وعائلته عندنا. بلا سند إيجار، لوحدة الحال بيننا. كان من بلدة ميس الجبل في الجنوب. كنت أسمع من أبي ومن أمي، عن طيب هذة العائلة الجنوبية. وعن كرمها. وعن أخلاقها. ثم رحلت العائلة عنا. إنقطع التواصل بيننا لفترة طويلة. ما كنا نعرف، أين سكنوا، بعد إنتقالهم للسكن في بيروت.
ذات يوم، قدم إلينا واحد من أبنائهم بصحبة زميل له. فتجدد التاريخ العائلي معه. وأرشدنا إلى دارهم في بيروت. كانوا قد إستقرت بهم النوى، في محلة البربير. ومن لا يعرف مستشفى البربير، أيام إزدهار لبنان وإزدهارها.
كنت في بيروت، لتقديم الإمتحان الشفوي، بالشهادة الثانوية في “ثانوية عمر فروخ”، في محلة الكولا. فعزمت على زيارتهم. وذهبت من هناك، إلى البربير ماشيا. إهتديت إلى بيت عبدالله الغول، بعد اللتي واللتيا. فأسرت بمحمبتهم وبعاطفتهم. أسرت بحسن إستقبالهم، كبارا وصغارا كنت ممثل جدتي. ممثل أمي وأبي وإخوتي وأخواتي. كنت ممثل العائلة. ولذلك كنت محط محبة العائلة: عائلة عبدالله الغول.
حللت على عائلة صديق العائلة عبدالله الغول، ضيفا عزيز الجانب. أسرت بمحبتهم وضيافتهم ليومين. كان بيت عبدالله الغول، كأنه في عيد، في اليوم الذي وصلت إليهم. كان يوم السبت، جزءا حقيقيا من عطلة رسمية. أغروني بالبقاء عندهم. قالوا لي:في اليوم التالي، يوم الأحد، نذهب صحبة، إلى حريصا، لتناول الغداء بين ربوعها الخضراء. كانت هذة الزيارة الأولى التي قمت بها إليها. كان ذلك، صيف العام1969.
كانت دهشتي عظيمة، وأنا في سيارتهم العائلية. كانت السيارة تتلوى بنا، على المنعطفات العظيمة، صعودا إلى حريصا، من مفرق أوتستراد بلدة جونية. كانت عائلة عبدالله الغول، قد إعتادت النزول في ربوع حريصا، في أيام العطل. في أيام الآحاد والأعياد. قالوا لي، إن هذة التلال والوهدات في قمة جبل حريصا، إنما هي موئل العائلات البيروتية. ولذلك إهتدوا فورا، إلى شجرتهم العائلية. قالوا لي أيضا: كان أهالي بيروت يخروجون إليها للنزهات. يعرفون أين ينزلون. ويسمون الصنوبرة أو السنديانة التي ينزلون تحتها، على إسم العائلة. فيقطعون وقتهم تحت أفيائها. وبين أحضانها. كان لكل شجرة في حريصا حضن عائلي. كانوا يحملون إليها الأطباق والمشاوي. وآلات الرقص والفقش، والترويح عن النفس. وعندما تأخذ الشمس طريقها للأفول، يشرعون في توضيب حاجاتهم، ويسلكون طريق العودة، إلى بيروت.
كانت تلال حريصا في أيام حريصا.. والأعياد، بهجة للناظرين. ترى الأهالي هناك، يعرفون بعضهم. ويزورون بعضهم، وهم في أعالي القلل من حريصا. كانوا يشعرون في ربوعها، بالأمان وبالإطمئنان. ترى التلال الخضراء تمتد مسافات، مسافات، على مد النظر. ترى البحر تحتها، صفحة زرقاء، وكأنها قطعة سقطت من السماء. ترى الشاطئ وقد امتلأ بالعائلات. كانت حريصا، كما خليج جونية، قبلة أهالي بيروت من كل الطوائف، ومن كل الأعمار. ذكرت ذلك للصديق الرقيق يوسف رقة. قال لي: أود أن أضيف لك قولا على قول: وقفت مثلك تحت ظلال القبةالزرقاء. القبة الخضراء. القبة البيضاء، في مزار حريصا، عند محطة التلفريك. نظرت إلى السلكين الحديديين، وإلى المركبة الفضائية، العربة السلكية، وكأنها سلة من سلال الزهر و الورد. كانت الفساتين والشالات الحمراء والخضراء والصفراء، تحلق فوق الغابة الخضراء، مثل أجنحة الفراشات. كان السلكان المعدنيان، مثل خيطي عنكبوت. كنت أرى العربة، تغزل غزلا فوق السلك المعدني الذي يتماهى مع لعاب الشمس، كأنه لسان عنكوبة، ترسم بيتها بين خيطان الشمس عند الغروب. كنت أرى السيارات على الأوتستراد الذي يلف بلدة جونية، وكأنها، من أجنحة الدبابير، تمشي على الأرض. كنت أجد على صفحة الماء في الخليج، كيف تطير العصافير، مثلما تطير فلوكة فوق البحر. كنت أرى الناس، على الرمل الذهبي الذي يلمع تحت عيوني، وكأنهم أزرار من ذهب. أزرار من ورود. أزرار، في قميص عروس، تستلقي على الرمل، تحت شمس تستحي، بين الغمامات البيضاء، فتنثر شالها الذهبي، فوق فقش اللجين. فوق فقش الزمرد. فوق أقراص من نيلة، تلون عقدا من جمان، في عنق مدينة مسحورة على بحر.
أدهشني صديقي، يوسف، حين حدثني، عن صدمته النفسية وهو منجذب في الحديث عن حريصا، مثل طفل أصابه المس.
حقا، كانت دهشتي عظيمة، من رؤية هذا المكون الطبيعي والإجتماعي ، في تلال حريصا، حيث يخرج الناس إليها، لطلب الراحة والسكينة والهدوء. لطلب الدفء والحنان والإيمان. يمتعون أنظارهم من الأعالي، في النظر إلى التلال من الأشجار و السيارات، والكائنات، والناس. كانت تلال حريصا، لهذة الأسباب، وكثير غيرها، معقد عزائم أهالي بيروت. يفرغون إليها يتواعدون على دروبها. يتواعدون على تلالها. يغدون إليها في الصباحات الباكرة، ولا يعودن عنها، إلا مع نزول الشمس في البحر، إلا مع هبوط الليل في المساء.
كانت تلال حريصا، مثل عذراوات. تحط على فساتينها الحساسين. تحط على فساتينها الفراشات. تغزل بمناقير البلابل، أناشيد الحب والجمال، لسيدة، تبدت للناظرين إليها، من قريب ومن بعيد في صورة عذراء: نفحة من إيمان. نفحة من جمال. نفحة من تسبيحة رهبان وراهبات. نفحة من خيال.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين