شرط الفلسفة الترجمة
النص الفلسفي عند د. حسين صفي الدين نموذجا!
لكل عمل شرطه. وهو الذي يحدد نجاحه أو فشله. وشرط كل عمل متصل بغائيته، ومدى تحقيقها، أو التقصير عن بلوغها. ويجب أن تكون هذة الغائية، على درجة مهمة. على درجة كبيرة من النبل والعظمة وفخامة الطلب. وإلا ضاع كل جهد مبذول في طريقها. وضاعت الآمال المؤملة. وضاعت النتائج المتوخاة منها. وأسقط من يد الكاتب. وأسقط من يد القارئ أيضا. وصار القارئ ألى الحيرة، والسؤال عن الفائدة، التي كان يؤملها، ولم يعثر عليها، بعد الوقوف على العمل. إن بالتفصيل أو بالجملة.
في ميزان هذة الرؤيا المتكاملة، لقراءة أي عمل من الأعمال، تأتي هذة العجالة التي نسطرها، للكشف عما أتى به الباحث د. حسين صفي الدين، في كتابه الذي بين يدينا: ” النص الفلسفي تحت قوس قزح الترجمة إلى العربية، دار الإنتشار، الشارقة- الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2023: 308 ص. تقريبا”.
يقدم لنا الباحث ها هنا، عملا أكاديميا متكاملا، مستوفي شروط البحث، كأنه يقول فيه بإختصار شديد: شرط الفلسفة، شرط تمكين المترجم من ترجمتها. وإلا فإن كل فلسفة تتأبى على ترجمتها، فهي هراء. لأن الوعاء الفلسفي، يجب عليه أن يتسع لكل أوعية اللغات.
هذا المؤلف، بشروطه الأكاديمية الدقيقة التي إلتزم بها البحث، منذ البداية حتى النهاية، كان شديد التجانس في أقسامه وفي فصوله كافة. بالإضافة إلى المقدمة و مسرد المحتويات، وبيبلوغرفيا المصادر والمراجع الغنية للغاية. والخلاصة التي أوفى بها عمله الصعب والدقيق.
ذلك أن عمل د. حسين صفي الدين: “النص الفلسفي، تحت قوس الترجمة إلى العربية”، إنما يقع في ثلاثة أقسام. وكل قسم، مؤلف من خمسة فصول متوازنة إلى أبعد الحدود. وهو أراد أن يثبتها على الصورة التالية:
1- جعل القسم الأول، في فلسفة اللغة ونظريات المترجمين، خلال العهود القديمة والوسيطة والمعاصرة. و قد تحدث تحت هذا العنوان الشامل و العريض، بخمسة فصول عن:
أ- الترجمة إلى العربية وأثر السريان في الحضارة العالمية. وعن النقل في الأندلس. كذلك تحدث فيه، عن فلسفة الترجمة، عند ثلة مختارة من الفلاسفة، مثل أنطوان بيرمان وجاك دريدا و غادامير وجان رينيه وبنجامين.
ب- تحدث عن فقه الفلسفة و الفلسفة والترجمة، عند طه عبد الرحمن، ليبين قواعد الترجمة عنده. وكيف نظر هذا الأخير إلى ديكارت، وكيف ناقش، بعض المفاهيم والمصطلحات الفلسفية، من خلال عمليات الترجمة التي وقف عليها. وكيف إستطاع فهم المصطلح الفلسفي المنقول. وكيف قارن بين المنطق وعلم الكلام.
ج- ناقش ظهور النص الفلسفي، كأول إنتاج للترجمة العربية. متوقفا عند حنين بن إسحاق، وإبن رشد
د- ناقش أيضا الترجمة والإبداع الفلسفي العربي الحديث، حيث طرح عدة إشكاليات، وعدة مشكلات، واجهته، في الأنطولوجيا وفي ملكات النفس وفي الأبستيمولجيا وفي المنهجيات.
ه- وخصص أخيرا وليس آخرا، هذا الفصل، للنظر في الترجمة المعاصرة للنص الفلسفي.
غلاف كتاب د. حسين صفي الدين
2- قدم في القسم الثاني من البحث، رؤية نقدية واسعة، لبعض الترجمات التي قام بها بعض المترجمين. شارحا رؤيته هذة، في خمسة فصول نقدية:
أ- تحدث مثلا، عن أهمية الفلسفة في النهوض الإجتماعي. متوقفا عند آراء منيمنة وحنفي وكمال الحاج وغيرهم.
ب- وفي الفصل الثاني من هذا القسم، تحدث عما قدمه موسى وهبي، حول ترجمة النص الفلسفي.
ج- نظر في ترجمة مصطفى صفوان لكتاب، “علم ظهور العقل”، لهيغل. متوقفا عند حرية وعي الذات، وعند اللاهوت الديني، وكذلك عند الربط بين الأفهوم والعلم، منتهيا لنقد مصطلحات ترجمة هيغل، بعد الوقوف على ترجة نص هيغل نفسه. د- تحدث أيضا وأيضا، في هذا القسم عن هوسرل وترجمته إلى العربية، مستشهدا بترجمة تيسير شيخ الأرض، خصوصا، حين وقوفه بشكل دقيق، على المصطلحات المستعملة في هذا السياق.
ه- وإنتهى فيما بعد للنظر في ترجمة دولوز لكتابه “ما الفلسفة”؟. متحدثا عن المعرفة بأفاهيم محضة بصورة عامة، والمراحل الثلاث التي يجب أن تقطع، لتكوين الأفهوم بصورة خاصة.
3- تحدث المؤلف في القسم الثالث والأخير من كتابه، عن ترجمات جان بول سارتر إلى العربية. وقد قارب هذا الموضوع من خلال هذة الفصول الخمسة التي أوفى بها شروحاته:
أ- نظر في ترجمة كمال الحاج لنص سارتر، حيث الوجودية مذهب أنسي، كما يقول. وحيث أهم آراء سارتر. كما وقف على ما وجده من تناقضات، في مقاربة الحاج لوجودية سارتر. ب- نظر أيضا في ترجمات عبد الرحمن البدوي للوجود والعدم عند سارتر.
ج- توقف عند الفكر القومي ونشأته. وعن تشكل الفكر القومي العربي، وتاريخ ظهوره، وماهية صياغته. كما نظر في واقع الولايات العربية، في الحقبة العثمانية، والحملة الفرنسية، وصدمة الوعي، من خلال حملة نابليون.
د- أفرد مبحثا خاصا عن سارتر. وعن مفاهيم الإلتزام والحرية. وعن تأثير الترجمات على شروحات سارتر، خصوصا شروحاته الإيديولوجية، وواقع الطرح القومي و التجربة الناصرية. ناهيك عن تأثير الوجودية لدى سارتر في الأدب والفن، حيث يخلص لتكوين رؤاه، بأن الإنسان هو مستقبل الإنسان. متوقفا عند النظر في ترجمات بدوي، للفلسفة الوجودية والتصوف، وحضور الكائن الإنطولوجي بينهما.
ه- تحدث في الفصل الأخير من القسم الثالث، عن سارتر، وأهم مواقفه الوجودية، شارحا جميع مواقفه في: العمل الحزبي وفي الماركسية والحركة القومية. مقارنا بينه وبين كيركغارد وهيغل. كذلك نراه يتوقف عند: نقد سارتر لسائر الوجوديين وللتجربة السوفياتية. شارحا مقدمات التحول عند سارتر، نحو الماركسية، منتيها للنظر في نقده التجربة السوفياتية.
هذا العمل الوافي، إنما هو بنظرنا، عمل معقد. شديد التخصصية، لتبيان أن شرط الفلسفة، شرط ترجمتها. فلا يستطيع أن يخوض في مثل هذا المجال الصعب الممرات، إلا من كان متسلحا بالعلم والصبر. ولهذا نرى د. حسين صفي الدين، قد ساهم مساهمة قوية، في طرح مثل هذا الموضوع الصعب، كأنه كان يرى مسبقا أن الفلسفة شرطها الترجمة أيضا. وقد حث خطاه لبلوغ غاياته هذة، فبلغها، وكان له فيها قصب السبق، وما ند عنه إلا القليل.
وإذ نكبر له مثل هذة الإنضباطية، في تقسيم بحث القيم إلى ثلاثة أقسام، فإنني كنت أفضل أن يكون قد جاء على ثلاثة أبواب، بدل أز يجيء على ثلاثة أقسام. كذلك كنت أفضل أن يدقق في رواية الشواهد الشعرية،(ص:105). وأن يفصل بين المصادر والمراجع. بحيث يكون لكل منهما مسرد خاص. كذلك كان من الأفضل لعمله الأكاديمي، أن تتقدم المصادر والمراجع العربية عنده، على المصادر والمراجع الأجنبية، لسببين وجيهين: كون تأليف الكتاب باللغة العربية من جهة أولى، وكون الكتب العربية هي الأغلب في قائمة الكتب التي إستند إليها. ناهيك عن الخلاصة، التي أنهى بها عمله الرصين هذا. فقد كنت أتمنى أن تأتي، بصورة أفضل وأوفى. وأكثر تفصيلا، وأدق تعبيرا. ما دام عمله، قد جاء على مثل هذة الدسامة. فلو إنتهى بما هو أعظم مما بدأ، لكان ذلك أعظم للعمل. فالإحسان في صنع الخلاصات، هو أيضا إحسان في صنع الخواتيم والنهايات. غير أنني إنصافا للباحث وبحثه الأكاديمي الرصين، أستشهد بقول الشاعر، حين قال:
ولست بمستبق أخا لا تلمه/ على شعث. أي الرجال المهذب.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين