“التعلق”: خسائر آنية ومؤجلة
بقلم: د. بسّام بلاّن
-×-×-×-×-
في أواخر العام 2011 اقتنيت جهاز كمبيوتر “لابتوب” كان وقتها من أحدث الطرز، ميزاته وتقنياته كافية لتساعدني على ممارسة أنشطتي، وكان رفيقي في واحدة من أبرز محطات حياتي وأكثرها حساسية. ماركته معروفة ولونه راقٍ.. وحفظت فيه مئات الملفات، وواظبت على العناية به وعدم اهماله وحفظه في مكان لائق.
هذا الجهاز كان أيضاً في مرحلة ما نافذتي شبه الوحيدة الى العالم، خاصة أن وسائط التواصل كانت في تلك الفترة قد بدأت تحجز لنفسها، وبقوة، المكان المؤثرة في حياتنا. فكان هذا الجهاز رفيقي شبه الوحيد والشاهد الوفي على ارتفاع وانخفاض أمواج انفعالاتي.. وفي خزائنه حفظت كلماتي وكتبت أمنياتي ودونت “خربشاتي”. شربت معه القهوة قبل أن يستيقظ أحد، وحملته معي في السيارة والى المقهى وشاطئ البحر. وفي المحصلة وجدتني مرتبطاً به ارتباطاً عاطفياً وثيقاً.
مرت الشهور والسنين وكان يزداد معها تعلقي به.. أما وفائي له فقد جعلني لا أنظر لغيره وأصبر عليه فوق طاقتي أحياناً ولا احاسبه على هناته أو أخطائه معي.. فقد أخطأ بحقي أكثر من مرة وضيّع مني جهداً أنفقت عليه أيام من دون مبرر، وكثيرة هي المرات التي وثقت به وأمنته على قصصي وحكاياتي، لأستفيق على صدمة كبيرة عندما أعود إليه وأجده غير مبالٍ بها أو أنه قذف بها الى مكان اختاره بنفسه دون أدنى معيار لعاطفة أو إحساس أو جهد. وانتهى به المطاف الى أن صار “يهنك” ويشتغل لوحده ويغلق نفسه بنفسه بلا مبرر أو مقدمات ولا مراعاة لحاجتي إليه أو الإحساس بأي مسؤولية تجاه “شراكتنا”.
صار التعامل معه يخلق فيّ حالة توتر، فلم أعد أطالبه إلاّ بالحدود الدنيا لحاجاتي، ولا ألجأ اليه إلاّ مضطراً كي لا تؤثر أفعاله أو ردود فعله على عاطفتي نحوه أو تقلل منها.
مرت السنين وأنا أقاوم بشراسة أي نزعة أو فكرة للاستغناء عنه، بل على العكس أبقيته محفوظاً في مكان مرموق ولم أدخر وسيلة للمحافظة عليه ورعايته. ومع ذلك كانت استجابته تنحدر وتتراجع يوماً بعد يوم، الى أن صار معيقاً لي على إتمام واجباتي بدلاً من أن يكون مساعداً ورفيق درب.
وفي “لحظة قوة” اتخذت قرار استبداله ونفذت ما عزمت عليه. ومنذ استخدامي الأول للجهاز الجديد أحسست أن الدنيا برمتها تغيرت: سرعة استجابة، أداء عالي، دقة في كل شيء، نسبة أخطاء صفرية…إلخ، لدرجة خُيّل إليّ أنني كنت كمن توهم الصعود الى القمر على دراجة هوائية “بسكليت”.. وفجأة لامس الحقيقة عندما انتقل الى مركبة فضائية مُجهزة بكل ما يحتاجه بلوغ الهدف.
الى هنا تبدو الحكاية بسيطة وربما في نظر الكثيرين ساذجة، ولكن عند تأمل تفاصيلها لن تكون كذلك، بل أعتقد أنها تفتح باباً لخُلاصات حساسة ومهمة تصلح للبناء عليها في مسيرة حياتنا، سواء أطالت الرحلة أم قصرت.
تأملت وتذكرت كمّ الأخطاء التي نرتكبها بحق أنفسنا نتيجة “تعلقنا” العاطفي الصرف وغير الواعي بما حولنا، أياً كان: أشياء، أفكار أشخاص، مقتنيات…. إلخ. وكم هي المتاعب والأثمان التي ندفعها نتيجة ذلك.
عرّجت الى عدد الذين يُعيقون وصولنا الى أهدافنا، وكنّا نظن أن حياتنا ستقف من دونهم، فأبقينا عليهم وتخلينا عن أهدافنا (!).. وعدد الذين تنازلنا لهم عما يسعدنا؛ فأنكرنا ذواتنا ظنّاً منّا أن الحياة ستقف عند حدود وجودهم، لنستفيق على خسائر كبيرة لا يمكن تعويضها.
استعرضت بعض العادات التي نظن أنها نهج الحياة من المحال العيش من دونها، بينما هي في حقيقتها عادات ضارّة بأعراض جانبية ونهائية مُدمرة، ولكن تعلقنا بها واعتيادنا ممارستها دون وعي جعلنا نقدمها درجات ودرجات على حساب فائدتنا ومصلحتنا، فتكرست بنا وتكلّست حياتنا فيها.
قد يخلط البعض بين ما أقول وبين “قيمة الوفاء”، وجوابي أن الوفاء أولاً يجب أن يكون لروحك وعقلك وذاتك، مع الدقة في ضبط الميزان كي لا يتم الخلط بينها وبين الأنانية أو الإنكار أو التنكر.
كثيرون هم الأشخاص والأفكار والأشياء التي “نعتقد” أنها تصلح لنا في كل حياتنا، وهذا اعتقاد عادة ما ينبع من معطيات ومقدمات نستخلص منها هذه النتيجة، وأثناء الرحلة نكتشف خطأ أو أخطاء تستنزف جهدنا ووقتنا وروحنا، ونفكر بتغيير كل شيء من حولنا، ولا نتجرأ على مجرد الاعتراف أو التفكير بأساس المشكلة، فنحصد نتائج كارثية.
وفوق كل هذا وذاك، يمشي التطور مع الزمن ولا يتوقف عند حدود، وما يفيدك فعلاً هو ذلك الذي يتطور معك وفق معطيات زمنك، وليس ذلك الذي يتسمر في مكانه ولا تسمح له إمكاناته ولا ميزاته ولا صفاته أو طباعه أن يتقدم ولو خطوة واحدة معك.
لنتأمل عدد المفاهيم التي تغيرت خلال العقد الأخير، بدءاً من مفهوم وفهم الذات وحتى العائلة والوطن وغيرها، ومن يختار التكلس في مكانه فلا يلومن أحداً إن وضعه في “متحف ذكرياته” أو ركنه في زاوية هامشية وقد ينفض عنه الغبار إن وجد وقتاً لذلك بين الحين والآخر.
المهم أن اللابتوب القديم وضعته في حقيبة وأودعته أحد الأدراج، لأن الطاولة التي تعجز عن ترتيبها، لا حلّ أمامك إلاّ أن تقلبها رأساً على عقب، ولكن بحكمة وتعقل.
د. بسّام بلّان
أجت أبو أصيل في تطويع الحروف لمعالجة فكرة المقال .. بأسلوب جميل، سهل، وراقي.
والشيء بالشيء يذكر فقد عانيت أيضا من اللاب توب ااذي اقتنيه وهو يكبر جهازك بثلاث سنوات لكنني شيعته الى مثواه الأخير عند أحد العاملين في تصليح وصيانة الأجهزة قبل أربعة أعوام .. تحياتي