قراءة في كتاب (رجل وقع الى فوق) للكاتب اللبناني ريمون زيادة
ىقلم الكاتبة والشاعرة : غادة رسلان الشعرانى
-×-×-×-×-
كمغايرةٍ للمألوف ، و باتجاهٍ يخالف عملية السقوط ، يعنون كاتبنا الأستاذ (ريمون زيادة) كتابه ب (رجل وقع إلى فوق) ، و كأنه التذكير الدؤوب لنا بوقوعنا نحو الأعلى حين انعدام جذب الأرض لنا ، فتلفظنا نحو الأعلى ، فهل يقصد بهذه الحال ارتقاءنا أم سقوطنا ؟
يضعنا العنوان أمام تساؤلات كبيرة ، يختزلها في شخصية بطله (رفيق) الرقيق و الدقيق …
يبتدئ كاتبنا ريمون زيادة روايته بصورة لتمثال إله الزراعة والخمر (باخوس) و بإهداء إلى غير الموجود في هذا الوجود
و كأننا معه بانطلاقة سهم ناري يبعث فينا السؤال الأول من أول كلمة و سطر ، فيخط معه صورة للعدم او للموجود خارج وعينا فقط ، لنرسم نحن صورته كما نشتهي و نريد …
كاتبنا الذي اعتاد الانتهاء من تنقيح اخر صفحة في كتاب ما حتى يبدأ بالولوج نحو ممر فكرة جديدة لكتاب جديد ، فهو الساكن بين أروقة كتبه هارباً من اضطهاد الألسنة ، ها هو الآن يلتقي ببطل كتابه (رفيق) المخنوق جداً من ضجيج أصوات السيارات التي تعبّر عن الحالات النفسية لدى الآخرين من أفراح وغضب ، من طبول حناجرهم التي تؤذي طبلات آذانهم …
فهو يسكن في مكان لا يقيم فيه ، يحب المشي طويل النفس ، ليس بهدف الوصول الى مكان محدد بل كي لا يعود نحو مكان كان فيه ، و بات غير موجود …
رفيق الرقيق و الذي يتكون اسمه من حروف فقير ، تربى في كنف جدته بعد موت أهله بقذيفة ليلية طائشة حاقدة ، هو لا يعرف البكاء لكنه يُبكي الآخرين ويضحكهم ، لا يفضل الوقوف أمام مقابر الذكريات ، و لا يستهويه التحول لشخصية من البؤساء أو أن يغدو زميلا لبائعة الكبريت ، فالدنيا لديه سينما ، مجموعة صالات مجمعة متلاصقة لعروض الخوف والحروب والنهب و السلب و غيرها من القتل والجنس ، أما رفيق فهو الموضوع في صالة عرض درامي من بطولة اهله ، هو ليس ضحية مأساة ، فالمآسي برأيه لا تعد و لا تحصى ، رحل قبل أن يعرف كيف يجمع شتاته و تبعثره …
الموت عند رفيق عبارة عن لامفاجأة تختبئ تحت اسم (فجيعة) منتحلةً هذا الاسم في الحياة الوجودية ، فهو رفيق الرفيق بالإنسان والحيوان ، في داخله إنسان منقفل على ذاته لكنه غير مسجون و غير مطارد ، لا يريد شيئاً و لا يتدخل في أي شيء ، لا يستهويه التطرق لتوافه الأمور ، و لا يحب لغة اللغط و الغلط .
يصفه كاتبنا بأنه رفيق و فقط هكذا ، لا يسع أحد أن يكونه ، حجمه كان بحجم رحمه الذي خرج منه ، لم يكبر ، وزنه الجسدي قليل إلا أن وزنه الفكري هائل لقدرته على اقتحام دماغك ، هو رفيقُ طريقٍ يمشي عابراً الحياة بلا إقامة ، والناس لديه منسيون رغم كل إنجازاتهم …
كان سلمياً لا جباناً ، لكنه يرد على الاعتداءات بطريقته الخاصة ، درس في كلية العلوم الاجتماعية ، و تمادى تميزه الى غرابة بوجهة نظر الآخرين ، يعرّف عن اسمه (واحد من البشر) ، و عن أبيه أننا كلنا ابناء أب واحد ، و أن تاريخ ولادته هو لحظة انفجار متعة ممارسة حب أنجبته بعد تسعة اشهر ، أحب صاحبة ثديين ضخمين و عيني حصان عربي ، فخانته …
هو رفيق الكافر لا الملحد حتى لا يتعرض لاحتكاك لا يرغبه مع رجال الدين ، كان يشرب و يسكر ، شرب على الريق مرة حتى تقيأ دماً ، رفيق لا علاقة له بفكر كل الأحزاب و التيارات ، هو على يسارهم كلهم ، خارج مجال توزيع المغانم والثروات ، تعلم كيف يكون آنياً ، فيعيش كل لحظة بلحظتها ، لم يؤمن بركوب المخاطر و لا بقيادة السيارات ، يفضل قيادة جسمه على طريقته باستخدام حذائه ، لأنه الأكثر أماناً ، فلا يحب التعرض لحادث يفقده ما يحتاجه من جسده ، ولا يحب الاكواع و لا اللف و الدوران ، يستخدم جحش الدولة (الأتوبيس) في حال وجود مسافات بعيدة ، يمشي في فكرته و معها لا على الطريق ، هو رفيق المهذب و اللبق دوماً …
زواجه قصير العمر كان برأيه طويلاً جداً أطول من حبل المشنقة ، يزينه بعبارة (أنا مطلّق ، فأنا موجود) ، و يشرح بأنه قد غدا مطلق حال ، و محرر ، لم يتبع ديناً معروفاً ، لم يكن ملحداً فله لحده ِ، و لهم لحودهم ، فهو المؤمن الحر الذي يحق له أن يكفر ، يطيع وصايا المبادئ الخالدة لكنه لا يضيع في متاهات هرطقاتها ، فهو لا يحتمل دفاتر شروط فروضها …
يؤمن بالصدق مع الذات ، و يكفر بمهالك اللذات ، يؤمن بعظمة (لا) ، الرفض و الاستغناء و الاعتذار و التمنع عن الصعود لحلبات الصراعات المستحيلة .
كفر بالنساء الغبيات الخاضعات لغيبيات غيبت حقوقهن وملامح أنوثتهن ، كفر بنساء ما بعد المال ، و بعد السياسة ، و الحروب ، و نساء ما بعد الخيانة ، أحب الليل دوماً ، لأنه مقر راحة جدته الوحيد ، و مقر حقيقة وحدته …
يؤمن أن أخطر ما نفتقر إليه هو العقل ، فكان غذاؤه الحيوي مخزناً في مخبأ حنطة طيبة جدته ، تلك الوديعة المسالمة الخيرة والمحتضنة بأشجار زيتونها ، و لم يكن الفقير أبداً معها …
أجاد إدارة ظهره للعنف الحياتي الذي لا لزوم له ، تصاعد مع افكاره ، و كأنه يتبخر نحو سكينة فضاء ما فوق الرؤية والصوت ، لذلك فقد أطلق عليه كاتبنا ريمون زيادة اسم (جبار هدوء)…
اتهموه بالشيوعية ، و بأنه ماركسي إلا أنها إشاعات قد طالته ، فهو لم يحب إلا الفودكا من كل اختراعات الاتحاد السوفييتي ، كان متمركزاً في نظرته إلى نظرياته الخاصة التي استولدها من أرحام تجاربه ، فلم يستهويه يوماً أن يكون أحد حشوات غيره من الناس ، ربما أرسى فكره في مركب الفكر الأقلَّوي ليدعم الثورة المستمرة عند تروتسكي لإيمانه بأنها تشبه الدورة الدموية في جسد الإنسان الحي ، فلا اشتراكية في ملكية الأدمغة ، و لا وحدة قياس موحدة لحراك الإحساس ، و لا مياه العالم كله تستطيع أن تلغي شخصية القطرة ، فالحرية من طبيعة الماء ، و من طبيعة الإنسان الذي يتشكل ثلثي وزنه من الماء …
رفيق الذي يقرأ ليعيش ، و لا يأكل إلا كي لا يموت ، فهو يشمئز من الالتهامات الضارية ، لكنه مع التخمة و التورم الفكري ، فهو يتعامل مع الكلمات ككائنات حية تتنفس تبتسم و تتألم ، قد أجاد لعبة الانتقال من نقمة الكتب المفروضة في التعليم إلى نعمة الكتب المختارة ، متعته الكبرى كانت مع الكتاب الاخرس الذي يخلق كل الضجيج في أعماقه الساكنة ، و يلهب جنونه ..
رفيق يكرر أحجيته التي تترك الآخر في حيرة من أمره عند سماعه لسؤاله الغريب :
” علمونا أن الثانية هي اصغر وحدات قياس للوقت ، فماهي ، و أين هي الأولى ؟ “
هو المنظم جداً رغم عدم احترامه ، و اعترافه بأي نظام في سره ، ينظم وقته ، و كأن الساعة هي من تتبعه ، لم يحب الوظيفة لأنها تعطل وظائف الدماغ ، و يخجل بالفقراء الدائرين في دوامات حيرتهم أمام خيار الطاعة أو المجاعة ، فهو المؤمن أبداً أنه لن يحتمل صدقه إلا ذاته فقط ، هو مع تنظيف نظر عينيه قبل تنظيف نظارته …
يؤكد على فكرته الخاصة ، و هي أن الفقير لا يدخل كوكب الأرض مباشرة بعد خروجه من رحم أمه ، بل يساق مخفوراً إلى كوكب اختبائه في ظله ، فيبقى خاضعاً لقوانين حياة الرحم ربما حتى نهاية عمره …
كان الرفيق المقيم داخل رفيق الصامت ، ينزوي ليصغي إلى ما يحدث داخله ، فهو المنتمي للأقليات الوجودية المعزولة المنسية المهمشة و المهشمة ، فقد كانت حرائق دائمة ومستمرة تفك رباط التحامه بالدنيا هي ما فرضت عليه ، تحرره من قيودها ، فيسعى لسحق البدايات التي لا فائدة منها …
أخطر ما ارتكبه هو تمنعه و رفضه لفكرة إنجاب الأطفال ، لأن كثرة الولادات لا تعني أن الحب بخير ، فهو لن يغدو سارق أطفال أو معتقل أطفال طالما أنهم ليسوا لنا على رأي (جبران) ، فليبقوا حيث هم …
كان يتمنى في سره أن يجد غير جدته من يتقاسم معه خبز عاطفته التي لم تكن كلها محتبسة فيه ، فقد غزا عطر إحداهن دماغه ، و رغم تعرفه بنساء كثيرات إلا أن واحدة منهن لم تتبعه بعري مطلق أراده لفكرها لتصير كل امرأته …
رفيق جهاز إرسال تشويق دائم لا تشويش فيه ، يبث لغته من فضاء مختلف ، هو قصة أفكار لا قصة اخبار …
رفيق ليس بالسوداوي المعتم ، و لا الكحولي السكير ، فهو يشرب ليذهب إلى مزيد من هدوئه ، يحمل روح المرح و السخرية ، لكنه من اكثر المهتمين باختناق العالم بثاني أكسيد الكربون ، و بثقب الأوزون ، بالأقمار الاصطناعية ، بالأعاصير ، باحتجاب الامطار ، بالزلازل و الدمار ، يتكلم عنها و لا يتشاءم ، و لا ينكب في مناخ النكبات ، و لا إلى ما تحت وطأة السلبيات و الأحزان مهما تعاظمت ، بل يقع إلى فوقها و إلى ما هو فوقها ، فهو المؤمن دائما أنه باحتلال الحزن لك عليك التحديق في وجهه ، و البصق عليه ، فيغضب منك و يهرب …
رفيق الذي يسعده دوماً القيام بربط الكلمات متشابهة الحروف ببعضها للولوج نحو عوالم اللغة و معانيها ، كما يربط بين الأشكال و أسلوب الحياة ، فيدور بدائرة أرغفة الخبز كدوران الناس الدائم في حلقات مفرغة ، رغم كبر حجمه الذي يظهر المكابرة لديهم ، و تفضيلهم لتكبير الأمور ، يقارب رفيق بين اللعبة الروسية من جانب ، فهي لعبة المرأة التي تحتوي شبيهتها و أصغر منها في داخلها ، كلما كشفت قناعاً تجد قناعاً آخر أصغر فأصغر حتى تدرك صفرها المختبئ فيها ، فتفهم حينها أنها ماتت فيك و مت فيها ، و بين الروليت الروسية من جانب آخر ، حين تضم بكرتها الرصاصة الأولى ، فتكون المختبئة في مسدس فارغ ، و لأنك رجل مغفل ستغفل عن لحظة لا تتوقعها ، و ستفج رأسك بها .
رفيق الذي يحب العقلنة فقط ، و ربما الأنسنة أيضاً ، رغم اعتداء الأفكار الهمجية عليه ، كان يشن نقده الجارح على أصحاب الرؤوس المنفوخة المتورمة ، و المحشوة بالبوتوكس الفكري ، فهو ممن يهيبون بإنساننا عدم نسيانه بأنه صاحب رقبة مستقيمة متحركة تمكنه من رفع رأسه إلى فوق ، و لهذا يواجه الشر القاطن داخل كلمة البشر ، فهو يحتقر من ينتحل صفة رجولة ، و هو يوقف نمو هامة مفاهيمه عند حدود أعالي أرجله …
رفيق لا يحب المتطفلين و لا الطفيليين ، هو حجم فكري هائل متجمع في قامة شبه جسدية ، يعتاش بالتهامه لصيامه ، لا يحب الأرغيلة لأن بطنها أكبر من رأسها ، يتعامل مع الآخرين وفق قانون التسعة وتسعين ، قانون يرعى حياة الإنسان حين يدخل مرحلة التسعين عاماً ، مؤلف من تسعة بنود :
١- النوم كسلفة مأخوذة من خزينة الموت .
٢- المرض فلولاه لمات الأطباء .
٣- العلماء الذين يسرقون أسرار الوجود بالتسلل لحدائقها الخلفية .
٤- للسان يد تطبق الفم احتراماً أمام جثة الصمت .
٥- الثروات التي تجمع لورثة أصحابها .
٦- الإنجاب لتغطية شعور الخوف من الموت .
٧- التدخين كرسالة توثيقية تقول : أنا هنا .
٨- الكفر وسيلة الفكر لاستفزاز و امتحان قدرة السماء على الكلام .
٩- القيامة كمفهوم ملطف لإخلاء تعسفي من مكان الإقامة ، فترحل دون النطق بكلمة .
رفيق يتبنى خيار المواقف المكلفة ، فالحقائق يجب أن تتخلى عن صمتها ، هو مع العري المطلق في التعاطي مع مبدأ الكشف عن الحقائق ، هو ضد مجتمع يعقد تحالفاً مع أغنيائه و غانياته على حساب أفكار صغار أبنائه الفقراء و الأيتام ، لذلك قرر في عمر الواحد والعشرين ألا ينتخب أو يقترع كي لا يساهم في هيجان المهرجان و كي لا ينتحب ، فهو قد أدرك مفهوم الوطن الفضفاض متأخراً ، والذي لم يشعر بالأمان في مكان لا مقر له فيه ، كما لم يدرك مفهوم الوطن المعبود …
رفيق لم يكن مجرد رجل هادئ مثل أي بليد فكري ، بل يؤمن في أعماقه بالحراك الصامت ، فكان ضد البؤر العشائرية التي تحتوي أكبر مخزون للجهل ، هو ضد الصفر الفكري لا الصفر الرقمي ، لأنه المؤدي للصفر الوجودي ، فهو ضد العنف والقهر و الاستغلال و الظلم بكل أشكاله …
رفيق ليس مفصلاً على قياس امرأة محدودة مكتفية ، و مقتنعة بحشر ذاتها في زاوية واحدة من كيانها ، يرى المرأة مخلوقة غنية مقيمة في بناء وجودي يطل و يشرف و يتواصل و يتفاعل طبيعياً مع جيرانه الوجوديين ، من خلال اربعه أبواب (الابنة والعشيقة والزوجة والأم) كهوية رباعية الدفع ، لكن رفيق لا يؤمن بهرطقة المساواة بين الرجل والمرأة من ناحية الحقوق و الواجبات التكوينية ، هذا من باب الحفاظ على تمايزها ، فهو ليس مع طمس هوية المرأة بتحفيز خشونة مشاعرها ، على المرأة ألا تتنازل عما تريد أن تتفوق فيه ، لذا فهو ضد أن تختصر بمكانة زوجة …
تألم كثيراً من عيشه مع زوجته ، و التي يسميها يسراه العسراوية العسيرة ، حتى اشتهاء الخرس و الطرش بسبب صراعاتهما التي تنتهي بكأس انتصارها وحزام بطولتها …
كانت أشبه بالحرباء ، طلقها بعد اكتشافه لإصابتها بنوعين اثنين من المرض (الخوف الكاذب و الكذب المخيف) ، و عاد ليكفر و يشرب ويدخن أكثر …
يدخن ليحدث فرقاً في المحيط فيستدل عليه الآخرون ، و يتأكدون بأنه لازال حياً داخل الأدغال الفكرية الموحشة ، يدخن و هو يعلم أنه ينتحر ببطء و بالتقسيط ، استنسخ جملته من دبكارت :
“أنا أدخن ، أنا موجود” …
رفيق الذي أطلق عليه أستاذه في الجامعة اسم (رفيق الجدلي) نسبة للجدلية (الديالكتيك) ، فباتت الجدلية مشكلته الدائمة ، و مبرر التعاسة و السعادة لديه ، فالكلمات بوسعها التحول إلى سجون معرفية حين يحاصرها العقل ، و حين تحاصر بدورها بمحدودية حدودها …
يؤمن رفيق بأن المرأة الشرقية تلد طفلها من خوفها ، و بأن اللعب هو من يجعل الأطفال يكبرون ، و بأن كثرة الولادات لا تعني أن الحب بخير ، و بأن العصافير مسؤولة عن اكتشاف النشاز بأصوات البشر ، والدمية المتكلمة اللابسة لنظارتيها ، لا تعرف لغة الضوء ، و لا لغة العتمة لأنها محتجزة داخل حدود كلامها …
رفيق لا يؤمن بالعولمة الغبية الزاحفة لاجتياح العالم ، فهو ضد فرض قوانين لعبتها عليه ، و تمادى نحو تجففه ، حتى بات كائناً مصاباً بالشلل الانفعالي الإرادي ، فعاش في جثة قتيل ، يرفض أن يُقتل ، الفرح في قاموسه حالة فكرية بورجوازية ، و هو لا زالت الأمور تعبس في وجهه ، و قد شابت لحية العملاق (كارل ماركس) في رماد سجائره أكثر …
عندما يكون خارج فكرته ، يكون في حالة راحة خارج نفسه ، عائلته ذاك التجمع الصغير التي قتلتها الحرب ، لم تعد تعنيه ، ذاكرته القديمة استأصلت أي ذكرى ، اعتبر كل من يجر حنينه بيده غبياً ، فلماذا التعلق بعنق الوجع ؟
كما أنه غير معني أبداً بالجائعين إلى غير خبزه ، رغم أنه كان رجلا مغناطيسياً و كيميائياً ، ينجح باختراق أدمغة أصحاب القلوب المنكسرة ، فهو رغم كآبته وغرابته رجل يشد الانتباه ، كرجل غامض مهم ، مهذب جداً ، يمشي مطرقاً ، رغم عدم وجود أي خلل في إمكانياته الجسدية ، إلا انه كان صوت ضمير الناس حين لا يمتلكون جرأة البوح علناً ، فهو داعية فكر جديد يستحق الوقوف عنده …
كانت نظرية رفيق هي (الإنوجاد في البعد المعرفي الشعوري الذاتي المتحرك) ، أي أنه قد وُجِدَ بإرادته ، و ليس بفعل من أفعال الوجود ، يبحث عن إنسان ينتقل بملء مشيئته ، و إرادته الواعية نحو بعد آخر قد وجده فيه ، و كوّن ملامحه ، وهذا لا علاقة له بانفصام أو توحد …
يؤمن رفيق بتعددية الأجساد فيه ، فكل جسد هو كتلة مشاعر و كتلة حواس و كتلة أجساد ، مكتومة و متخفية في قامة واحدة ، فكل جسد مقبرة جماعية أو عرس جماعي و قد يكونهما معاً ، أقوى هذه الأجساد و أوضحها لنقل كامل حقيقة شعوره هو ذاك الطفل فيه …
أكثر ما يؤكده رفيق هو إبادة و إلغاء وجودنا من قبل تلك (الصحراء) صحراء العقول ، وغياب الوعي و الإدراك ، رغم انتحالها لصفة التقدم و التطور ، فالعالم برأي رفيق يهتز و لا يقع …
رفيق يتأنسن عندما يشرب ، فهو لا ينسى خطر ضيق أنفاس الأوزون ، النفايات النووية ، تراجع الثروات المائية ، تراجع المساحات الحراجية الخضراء ، الجفاف و الجرف السكاني ، الانهيار الاقتصادي ، و ما ينتجه من جريمة و بطالة ، و الخطر الأكبر و السري للاستنساخ بإنتاج إنسان الجنس الثالث …
ثديا المرأة يعنيان لرفيق شيئاً حميماً جداً ، لا علاقة له بالجنس ، إنما بسرهما الوجودي كهبة و موهبة هما أقدس الينابيع و أطهرها ، يشعر أن فيهما طاقة خلق غامضة ، يتفجر ضعفاً عندما يلمسهما ، يفجران به قوة نادرة ، تشبه قوة تلك القذيفة التي اقتلعت أمه من بين شفاه طفلها ، فعشيقته ذات الثديين الكبيرين قد ملأت فراغ حنان جسده الأول ، كانت تستدرجه ببطء و بحذر شديد لكي يغفو على صدرها …
رفيق يأخذ حياته على محمل الجد ، فهي ملأى بالأسرار التي تريد إطلاعه عليها ، هو المتخصص بتوليد الأحلام ، و لا يهتم للكاذبين و لمن يطعنون بالظهر ، فمن نظرياته أن الناس مخربطون ، و لا أمل بالإصلاح ، لأنهم أبناء أوطان مخربطة ..
فهو يحب الحياة على طريقته ، فيفرد لها أوسع مكان فيه …
رفيق الذي يعتبر أن علم الاقتصاد في بلاد لغة الضاد هو كل المعلوم والمفضوح عن آليات صفقات الأضداد المتناحرة المتهافتة على تقاسم و تناتش عائدات الفساد …
رفيق لم يعد يؤمن بكلمة أحبك ، فقد باتت كلمة مدججة بالخداع ، تنازلت عن موقعها في أفكار العقول و مشاعر القلوب ، و نزلت إلى مستوى شعبوي لا يليق بها …
و لا يؤمن بالأنترنيت لأنه الثعبان الذي يحمل سموم تخليه عن مصافحة الأجساد و تواصلها ، حتى تماهيها لإعلانها ولادة أول طفل إلكتروني ، يؤمن بأن الفرق بين الشرق و الشرف هو نقطة دم عذرية ، فهو يستسخف هبل الفكر العشائري ، فليس هناك مرارة أكبر لمرأة لم تفهم بأن انتحال حالة الوقوع في الحب هو أسرع اغتيال له ، كان يسن سكين نحره لكل امرأة تنتحل صفة و اسم امرأة زوراً و بهتاناً …
فالجنس لا يباع و لا يشرى ولا يؤجر في مدرسة رفيق ، لأنه لا يخون و لا يخدع ، فهو ضد الجنس المباع بالدولار و المرسل بطريقة الديليفري ، هو مع جنس الملائكة ، جنس الارتقاء إلى سابع سماء ، رفيق ليس مصدوماً أو معقداً بل يعتبر نفسه غريباً عن نفسه ، و في انفصاله عنها لم يكن يعنيه التواصل الاجتماعي ، بات مصدوداً عن متابعة تطوره ، لم يقنعه الجوال و لا الكمبيوتر و لا اللابتوب …
أحد شعاراته “أنا الأصلي” ، الأصلي الذي تجده فيك بعد اقتلاعك لكل منسوج و مقتبس و مقلد و قائم في كل ما صار فيك ، يدرك رفيق اختلاف الأحاسيس من فرد لآخر رغم توافرهم في ذات الزمان والمكان ، فكلمة وطن مثلاً تعني لديه و/طنَّ ، طنيناً مزعجاً في أذنيه ، بشذاذ آفاقه و قراصنته و وحوشه ، بالكراهية والعنف و الأحقاد ، و كأن سكان الوطن من أسقطوا هيبة الشياطين ، و الأرواح الشريرة ، إذ بات المستقبل مجهولاً بمسارات دمائه الجافة ، فلا أحد يجرؤ على اقتلاع أنياب الذئب فيه …
رفيق يحلو له ما لا يحلل له في السياسة فقط ، يرجم السياسيين بصخور لعناته فيكفر أكثر ، ينشرهم بمنشار لسانه ، و يجزم بأنه لا أحد يجرؤ على الصعود إلى ما و من هو فوقه …
رفيق يرى أن لغتنا ليست حروفاً ميتة ، لغتنا أمانة لا تخولنا و لا تمنحنا الحق بتحويلها لتركيبات نمطية تطلقها أبواب المثرثرين بلا قيمة و لا جدوى ، فهو ضد تسفيهها و تشويهها ، فهو يحترم أهمية كلمته التي منحته إياها نعمة النطق ، لم يقبل بترويض طهر براءته ، و طفولته بتدريبه على فنون الكذب ، كان يخونهم بصدقه ، فهو لا يكتب و لا يحب إن كان حائراً ، لم يتوقف عن الوقوع إلى فوق ، لأنه قصة أفكار اختفت بعد احتراق كتب مكتبته ، و غاب معها عن السمع و البصر …
يعرف أن الموت لا علاقة له بدفن الجسد ، فالقبر يبتلع الجسم لا الاسم ، رفيق الذي سافر بعد حرق كتبه ، و السفر لديه له مفاهيمه الكثيرة ، كالموت أو الإصابة بمرض عضال لأنه المغادرة من الصحة السليمة ، أو الاغتناء و الفقر لأنهما السفر من طبقة إجتماعية نحو طبقة أخرى ، فللغياب حضور له و فيه …
يصف دولته في ذروة جنونه بالضريرة ، فبرأيه أنه لا سعادة في جمهوريات الموز إلا للسعادين ، يرى أننا ننتمي لأمة الشخير المزمن ، فالضمير العالمي الحقير بات يغرينا لتأسيس جمعية الرفق بالإنسان العربي ، سخريته السوداء تصف الجامعة العربية بالعرعرية …
الفقير برأي رفيق يحمل حفرة قبره معه فهو لا يستطيع إلا نادراً الابتعاد عن حافتها ، فهو السلعة الاستهلاكية الاستراتيجية الأولى ، هم عرق الجباه اللازم لحراك الحياة ، لذلك يرى أن العرب يعتمرون أكفانهم فوق رؤوسهم لتكون جاهزة على الدوام …
أمام مرض جدته بالمرض العضال ، غاص في بحر أفكاره ليقر بفقره الكبير ، هو لا يهاب المرض ، فلا مرعى لهذا العدو فيه ، سيموت فيه جوعاً ، و يغادره على الفور …
كان ضد العنف و ضد الضعف ، هو مع قوة السلام ، التي سماها بالعنف الأبيض ، بما فيها من الاعتراض ، و المقاطعة ، و الرفض ، و الاحتفاظ بقيم و صحة الذات و الوجدان المتشبث بحقيقته ، و يأتي بعده العنف الأحمر بما فيه من ليالي الجنس الحمراء و اللمبة الحمراء في زوايا المواخير ، التي يفتقدها في غرفة نومه ، إلى العنف الأسود بما فيه من حروب و اغتيالات و جثث و مقابر جماعية …
ماتت جدته ، فوجد أن الموت أكثر جدية من أن يبكي أمامه ، وجد أنه يجب ان يصغي له ، لأن الكلمة الفصل له ، ترك جدته تموت بمقدار ما ترغب ، أن تموت على ذوقها ، فوقف بكل خشوعه أمامها ، اكتفى بالمشاهدة الهادئة مع القهوة الذي اعتاد مع جدته احتساءها ، أصغى لها من خلال غرقها في صمتها الأصفر ، تركها تتكلم فيه ، لكن طفله المختبئ داخله قد هرب خوفاً ، فصار رفيق هو الموت الذي يتمنى موته …
رفيق لم يهتم بالماورائيات فهو يهتم بالأماميات من أهمية الوجود ، فبرأيه أن الانتماء لحزب او عقيدة يجعله محدوداً …
الكاتب والمحامي ريمون زيادة
بموت جدته ، شيء ما قد سيطر عليه غير الحزن ، لا يفهمه فربما هو الخوف من خوفه ، أو خوفه مما هو أكثر مما يخيفه عادة ، لا يلبث بالصعود نحو القمة حتى ينحني ، و ينكسر ، و يعود للقعر ، نحو صمته ، نحو عقمه ، ليحين انعتاقه من دهور حيرته ، هاهو قد تعرف على الموت باكراً ، لكنه ظن بأنه قد بقي بعيداً عنه ، أدخله الآن إلى عقر دار حياته …
يؤمن بأنه يمتلئ بالموت عندما يتحول إلى مقبرة قديمة لكل أفكاره ، استسلم لصيامه الفكري ، و تحولت معلوماته إلى خزائن مقفلة ، و لم يطلق صرخات الاستغاثة …
رفيق وجودي يعترف بمحدودية وجوده ، هو الواحد في انتمائه العددي ، يتفكك خلال عيشه باستمرار ، يتحول إلى وحدات تلقح نفسها بنفسها و تتوالد ، هو طفل وجود يتكرر و لا يكبر ، هو مجموعة محاولات ابتكار ، و مجموعة رغبات خلق ، لكنه يؤمن أيضاً بأن التوالدية تنتج المكبلين المنتمين لشعوب قزمة لا تجرؤ على تبني مسيرة عري الحرية …
بات رفيق حرفاً لا يُقرأ ، هو رجل مفكر ، مفتاحه تحت عتبة باب رأسه ، لا في قفل باب قلبه ، بات يؤمن بأن الجنس هو سلاح الحياة الفعال لمواجهة الموت ، و يرى أنه شعلة بقاء قانون الخلق الفكري قبل الجسدي …
يؤمن رفيق أنه لا أمية بالفقر ، بل ثقافة هامدة ، بكر ، نقية ،طاهرة لم تعِ ذاتها بعد ، أهم ما في الفقر هو ملازمته للجوع ، الجوع الوجودي الخلاق ، هو المصنع الأول لنتاج الخيال …
أطلق لقب سيروتونين على زوجته السابقة ، لأنه يتحكم بالعواطف و المهارات الحركية ، و أطلق لقب دوبامين على من أحبته ، لأنه يعزز هرمون السعادة ، و أطلق لقب فيتامين على جارته التي اهتمت بأمنه الغذائي و أمانه النفسي ، و دعمت جدته بمقوياتها المعنوية ، كانت مشكلته مع نسائه فكرية ، يحب المرأة التي تختاره ، و تسبقه في قراءة ما يجول في خاطره ، فالمرأة في حياته حاجة تحولت لماسة ، هي فكرة قد تقبلها واقعياً ، لم يحزن لتقلبات مزاج وجودها في حياته ، فهي قضية هامة ، قد تكون مستحيلة أيضاً ، المرأة المستحيلة التي لا يصل إليها الرجل إلا عبر (سيدها) عقلها الموتور المزروع في قلبها ، لذلك فقد اختار رفيق أن يبقى رجلا خافتاً في حياتها حتى تأتيه طاقتها الحركية بشكل إيجابي ، و يبادلها عبر عصاميته بطاقته الفكرية ، هو من يؤمن بأن خيانة المرأة لصدقه هو فعل اغتصاب ، فهو ليس مع العلاقات المندسة تحت غير عناوينها رغم جرأة علاقاته إن كانت صادقة …
أراد لحياته تخطي كل ما هي عليه نحو أبعد منها كلها ، نحو المطلق القائم في أعمق أعماق الوجود ليتفرغ له كليا ، فبدأ تحوله الى ناسك موجود في غير هذا الوجود المادي ، و في غير صومعة ، ليجد أنه الكائن غير المكتشف بعد ، فيه الكثير من الغابات العذراء ، كيانه لا يزال غنياً بعلامات الاستفهام الدفينة ، لكنه يؤكد أنه لولا الحرمان و لولا الشيطان لما كان للجنس هذا المكان و هذه المكانة ، فالجنس هدية الأوهام و الأحلام …
ما يعني رفيق حصراً هو عواصف متغيرات مناخات وجود (لبنان) ، فهي لا تتوقف عند حد ، و لا تعرف كيف تتوقف ، و لا تريد التوقف ، الكل فيه كان يخاف أن يبرد ، فصار يبرد أكثر مما يخاف …
رفيق الذي شبّعه الموت بكفر رفضه لوجود بدعة الخطيئة ، قد اكتشف أن البقاء بعيداً عن الناس لم يتركه داخل حصن مناعته ، بل اعتقله في فخ الفردية المنغلقة على الأنا ، و التي كانت ستصيبه بمرضها الشيطاني (عبادة الذات) …
العصر الحديث قد عصر البشر ، ليفرغهم من كل الأبعاد الإنسانية ، و يعزلهم عنها ، لتلقيمهم و تلقينهم معلومات أصحاب الخطط التي تسعى لربطهم بالآلة بعد تفكيك ارتباطهم بفكرة الإله .
الأرض تزداد سرعتها لتدخل في دوامة جنون ، تتقيأ كل ساكنيها نحو الفراغ الكوني ، فهو لم يعد يحتاجها ، رفيق الذي لم يعد يحب الفرح الملتَقَط كالوباء ، فالوهم يعمق الحزن ، و يطرد ذاكرة الفرح ، رفيق الذي لا يهرب ، فلا حرب في الأفق إلا بينه و بين نفسه ، محاولاً الارتقاء إلى ما هو فوق ترقي قرود داروين ، غادر حضن العفن ، وهاجر ، فرمى ذاكرته إلى قعر وجوده ، و صعد إلى منطاد غيابه الإرادي ، بعد فك وثاقه بتراب أرضه ، و وقع إلى فوق …
رحلة صعبة المراس و اللغة مع الكاتب الأستاذ المحامي (ريمون زيادة) ، نقبت في أدمغتنا كل المعاني اللغوية التي تحفر كينونتها في ذات الحروف ، كما أسئلتها و تساؤلاتها الوجودية في أرض نتمنى يوماً الوقوع نحو جنّتها …
شكراً جميلاً و عالياً لك كاتبنا لمشاركتنا في إبحاراتك الفكرية العتيدة …
الكاتبة غادة رسلان الشعراني