التجربة الشعرية للشاعر زكريا شيخ أحمد.. المنفى والروح المرهقة..
بقلم الكاتب والمخرج : حميد عقبي
نواصل تأملاتنا حول بعض التجارب الشعرية العربية في الغربة والمنفى، ونحاول تأمل بعض الحالات دون الدخول في تعقيدات نقدية، حيث أن تجربة الاغتراب والمنفى تركت أثرها الكبير في الآداب العالميَّة المعاصرة، البعد عن الوطن الأم قسراً أو طوعاً لا يعني الانفصال التام عنه، بل ربما العكس تماماً أي العودة العميقة إلى رحم الوطن واشتعال الحنين إلى كل ذرة تراب فيه ورؤية ما لا يراه الآخرين بالداخل والمقيمين فيه وقد يصعب أيضاً التمييز بين المنفيِّ والمغترب، حيث تعرض بعض الشعراء والمفكرين والأدباء للنفي وحرمانهم من العودة للوطن وتشويه صورتهم داخل أوطانهم وهذه من التجارب القاسية والمؤلمة وهناك من هاجر شرقاً أو غرباً بحثاً عن حرية أكبر أو الرزق أو وجدوا فرصاً أفضل، كثيرة جداً الأسئلة الشائكة حول هذه المواضيع والتجارب وسنحاول خلال سلسلة تأملات مناقشة ولو بعضها، في هذه المادة نخصصها عن تجربة الشاعر السوري زكريا شيخ أحمد وسنحاول تلمس بعض قلقة وحنينه وتقلبات روحه المرهقة، يفصح عنها أحياناً أو يصورها لنا بأساليب صورية ودلالية مفجعة.
منذ صداقتي بالشاعر زكريا شيخ أحمد وأنا أتابع تجربته الشعرية المدهشة وسبق أن كان ضيفنا على منبر المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح وتوقيعه ديوان “ضوء هناك” بحضور نخبة من النقاد والناقدات والشعراء والشواعر ولست هنا للعودة لهذه الندوة والتي يمكنكم الرجوع إليها عبر قناتنا يوتيوب، الغوص في شعرية زكريا هي غوص بذات إنسانية قلقة وهو يتخذ من الكتابة الشعرية كنوع من المسكنات وقد يمسك آلته الموسيقية في الهجيع الأخير من الليل ليعزف ويغني من التراث الكردي السوري، فهو متعدد المواهب الفنية واتجه مؤخرا إلى الرواية وأظن أنه قريباً سينشر روايته الثانية، من منفاه في المانيا والتي وصل إليها قبل عدة سنوات بعد تجربة مريرة، يمارس الكتابة كمتنفسِّ روحي مبتعداً عن الغموض والتوريات وكأنه يلتقط من يومياته بعض المشاهد يصورها لنا ببساطة مدهشة متخمة بشعرية بديعة ولا يأبه بطول النص ولا حشوه برموز وبذاخه بلاغية مصطنعة وإليكم بعض الاقتباسات والنماذج
النموذج الأول:
يقلقني الذهاب إلى طبيب نفساني
أخاف من تشقق وجهي
إن جعلني ابتسم .
هنا كأننا مع لقطة قصيرة لكنها كافية، الشاعر لا يهرب ولا يرفض السعادة والفرح وكأنه أيضاً في الكثير من نصوصه يُعبر عن نفسه كنموذج وهنا يضعنا أمام حالة ولحظة نفسية قلقة رُبما ينجح الطبيب النفساني أن يجعله يبتسم ولو للحظة، الخوف ليس من الابتسامة وهي أمنية لكن قد تكون تكاليفها باهظة (أخاف من تشقق وجهي)، الوجه مرآة الروح ونافذته إلى العالم وكأنه يتمسك بأن تظل هذه النافذة سليمة دون تشويهات ولا تشققات، لا يعني هذا التمسك بسلامة الوجه أننا مع شخصٍ عابسٍ أو متجهم الوجه، يترك الشاعر لنا أن نتخيل ونتأمل وربما نعيد رسم الوجه والشخصية وما حولها، المعنى الكامل والحكاية الكاملة قد تفقد شعريتها بالتفاصيل الدقيقة، يميل الشاعر حتى في نصوصه الطويلة أن تبرق القصيدة بشذرات صورية ضوئية تلامس أحاسيسنا وليس خبرتنا باللغة والبناء الشعري والمحسنات البديعية.
النموذج الثاني:
عيدُكم سعيدٌ
لا ترهقْ نفسَكَ بكتابةِ نصٍّ في العيدِ ،
لا ترهقْ نفسَكَ بكتابةِ نصٍّ عن العيدِ
فالعيدُ بذرةٌ
لا تنبُتُ في كلِّ الأماكنِ .
و إنْ اقتربَ يتكسرُ
ظِلهُ الهشُّ في أزقةِ الفقراءِ ،
ينكسرُ قربَ أبوابِهم
فيحمله العابرون بعيدا .
يَجْعَلُنِي حَزِينًا العيدُ
لأنَّه دائماً يفعلُ ذلكَ .
من الذي يسجنُ العيدَ
و اين يخفي المفاتيحَ؟
من يساعدُني في العثورِ على مفاتيحِ العيدِ ؟
اريدُ بشدةٍ انْ أفتحَ أبوابَ الغرفِ التي تستأثر بِهِ .
اريدُ انْ اطلقَ سراحَهَ ليتجولَ
ويرقصَ في كلِّ الأماكنِ .
اريدُهُ سعيداً كطفلٍ يوزعُ السكاكرَ على الجميعِ
عقبَ نجاحِهِ للصفِ الثاني الإبتدائي .
هو ليسَ عيداً سعيداً ،
على أيةِ حالٍ
عيدُكم سعيدٌ .
الشاعر زكريا شيخ أحمد
هنا وبمناسبة العيد حيث الكثير يحاول أن يعبر عن فرحته وأمانيه وقد يبالغ بعضنا بذلك، زكريا الشيخ أحمد، هنا يكتب عن عيده وأعياد من هم بعيداً عن الأرض والأحبة، فالعيد هنا ليس شجرة وارفة الأغصان والمزهرة بالفرح والبهجة وحتى هناك وفي بقاع ومدن عربية كثيرة تكتحل بالسواد وتلتحف الحزن والحرمان، يرى أن العيد ( بذرةٌ) لايزال من الصعب رؤيتها كنبتة أو شجرة أو حتى زهرة صغيرة، (لا تنبُتُ في كلِّ الأماكنِ) وقد يكون القصد ليس فقط الأماكن بمفهومها الفيزيائي وإلا ربما كان كتب مثلاً الأرض أو الحدائق، كأنه يذهب أبعد من الجغرافيا ويلمح إلى النفوس والأروح، العيد ليس الجاني ولا المذنب هو أيضا ضحية، يحاول أن يقترب من الفقراء والمحرومين فيكون مصيره أنه (يتكسرُ)، (ظِلهُ الهشُّ في أزقةِ الفقراءِ)، الظِل قد يسبق الشيء، يُشخصن الشاعر العيد وكأنه يشكرُ محاولاته التجول في أزقةِ الباحثين عن لحظة حلم وسعادة، كأن هذا العيد يمتلك الشجاعة وهو يعلم مخاطر التجول وطرق أبواب الفقراء المتعبين والذين يكونون أوفياء له فيلتقطون رفاته وبقاياه المتكسرة ويحملونه بعيداً وكأنهم يحمونه، يتيح لنا الشاعر أن نسهم بخيالنا لنكمل المشهد، هذا العيد الشجاع يكرر فعله في كل مناسبة وهو يعلم مصيره، حزن الشاعر هنا ليس رفضاً للحظة سعادة وكأنه يُشفق على العيد من هذا المصير المرعب الذي يتكرر.
هناك فاعل وجاني يتلذذ بحزننا، الأسئلة حوله لا تعني بالضرورة الجهل به، يسألنا الشاعر :ـ
من الذي يسجنُ العيدَ
واين يخفي المفاتيحَ؟
من يساعدُني في العثورِ على مفاتيحِ العيدِ ؟
أسئلة ارتدادية وصادمة، هنالك سجن ومفاتيحه مخفية عمداً، هنالك من يخفي فرحنا ويسجن سعادتنا ويقيد أحلامنا البسيطة والمشروعة، يريدنا الشاعر أن نفكر معه وأن نساعده ولو باشارات، هو لا يريد العيد لنفسه وهنا يشير أن العيد ربما مسجون ببعض الغرف والمجهولة أي ربما يوجد أكثر من سجان، فالسجون متعددة وتتكاثر وتتعالى جدرانها، تقسو أبوابها وكأن لا نوافذ فيها، يريدُ الشاعر تحرير العيد، ليرقص العيد، كأنه يحلمُ أن ترقص الأرواح بما فيه روحه المرهقة، هنا قد نتذوق طعم قسوة المنفى، فهو ليس سعيداً ولا العيد، السعادة أن نعود أطفالاً، يعود العيد طفلا، تُعاد إلينا فرحنا وأحلامنا الطفولية كذلك الطفل الذي يصوره الشاعر
اريدُهُ سعيداً كطفلٍ يوزعُ السكاكرَ على الجميعِ
عقبَ نجاحِهِ للصفِ الثاني الابتدائي .
إذن العيد والفرح والحلم والحرية هي حق للجميع وأؤلئك الذين يحرموننا هذه الحقوق الإنسانية ويبنون السجون والحدود والأسلاك الشائكة ويوجهون بنادقهم وقاذفاتهم ويمطرون علينا بكل أنواع القنابل القذرة هم الجناة والمذنبين، العيد هنا متعدد الدلالات فهو ليس يوماً أو بعض الساعات ذات الطقوس المعروفة، لا يمكن أن تكون سعادة إنسانية ناقصة بيوم أو يومين فرح، يشدد الشاعر ويهمس ويصرخ هناك سجون ومفاتيح مخفية وقوة عنيفة قاسية ومدمرة لم تكتفي بحرق وتدمير الشجر والحجر بل تصل قسوتها لتدمير أرواحنا وسجننا في ذواتنا.
النموذج الثالث:
مثل طيور حزينة
اِفتحْ ألبوم الصور أحيانا
اُنْظُرْ للعيون المكدسة في الصور
امنحها بعض النور
لا تتركها تتخبط في لجة الظلام الدامس
تلمس الرؤوس التي في الصور
مر بيديك على وجوههم
اعطهم بعض الحنان
انصت لهم
ابتسم معهم
تحدث إليهم
اترك مجالا ليدغدغ الهواء الندي أجسادهم
لا تترك الصور هناك مثل طيور حزينة
اِفتحْ ألبوم الصور أحيانا.
كثيرة هي النماذج التي تنبض وتفوح بروح شعرية تنبع من الروح، مع أبسط أداة وموقف تتفجر هذه الروح بشعرية دافئة، يعبر الشاعر عن الألم الجمعي ولا يظل حبيس الذاتية المفرطة ولا تضخيم الذات وقد يأخذ أبسط المفردات ويتأمل مشهداً صباحياً أو مسائياً لعصفور أو لشجرة أو زهرة، لجدار أو حتى اشارة مرور، هنا في البعيد كثيراً ما نقاسي الوحدة وفقدان الأصدقاء، اؤلئك هناك أو ببقاع الشتات ومنهم من فقدناهم إلى الأبد، الحروب والعنف سرقت منا أشياء كثيرة وبعضها من المستحيل عودتها، كأننا مع الشاعر في مكان مغلق، يفتحْ ألبوم الصور أحيانا وأحياناً هنا كأنه يُشفق على نفسه من لحظات الألم، في المنفى تختلف رؤيتنا إلى هناك وقد لا نملك من هناك إلا بعض الصور، هو ينظر( للعيون المكدسة) وهي أكثر صدقاً وبلاغة، تبوح بمكنون الروح وهو يمنحها ولو بصيص (النور)، رُبما بعض هؤلاء بسجون مظلمة أو قبور مفقودة أو هناك يعانون الجوع ويفتقدون الحرية، الشاعر ليس كالسياسي الذي يخطب ويلقي البيانات ليحصد الهتاف والأوسمة والمصالح، الشاعر يمنح ولا يأخذ، يمنح من روحه، يمنح النور ويحارب الظُلمة بكل أنواعها، يمنح الحنان والأمل والحلم، ينصت إلى الأرواح البائسة، يفتح ولا يُغلق، الطيور لا تتحمل الحزن، تموت إن وضعت باقفاص قاسية، الصور هنا يمنحها الشاعر نوعاً من القداسة لآنها تضج بالأرواح الحالمة التواقة للحب والحرية والنور والهواء.
خاتمة
من الظلم أن نختصر تجربة الشاعر السوري الكردي زكريا شيخ أحمد، في مادة عابرة ومختصرة وهي من التجارب الخصبة والثرية والتي تستحق الدراسة والتأمل، وهناك قصائد يتغنى الشاعر فيها بأرضه مدينة عفرين، حيث يصفها أنها لينينغراد، عفرين وردته الملونة وحلمه وشجرته وبيته وروحه هناك وهو يغني هذه القصيدة وأغاني عدة عن عفرين وأرض كردستان وهو يفتخر ويعتز باصوله ومنابعه ويحلم بالعودة إليها.
يأخذ الموت مكانة كبيرة في الكثير من نصوصه التي تضج بأسئلة مفجعة مثلاً يقول :
هل ملاك الموت يجتهد
أم أنه يتمرد على الله ؟
أم أن الأغنية التي أسمعها
هي ما تلج بي في غياهب الهذيان
لأهذي بهذا السؤال ؟
في واقعنا المفجع نسمع أخبار الموت أكثر من أخبار الحياة، موتنا يتسم بانه ربما يجتهد ويبتكر أساليب قاسية فضيعة مما يجعلنا نسأل إن كان ملاكاً؟
في أذهاننا الملاك نوراني ورحيم وحتى ملاك الموت فهو ينقلنا ويأخذنا إلى عالم النور والخلود، هنا يسأل الشاعر إن كان هذا التغيير وابتداع أساليب وأدوات فضيعة هو تمرد على الله؟ أم أنه يسمع أغنية من غياهب الهذيان، أسئلة كثيرة وجودية وفلسفية وشائكة أيضاً، وهذه أسئلة شاعر وروح قلقة فلا تحاكمونها في اطر فقهية ولا مذهبية ولا دينية.
يحتل الوطن مكانة مقدسة في نصوص زكريا شيخ أحمد، تارة يبحث عنه أو يراه أو يتمثل له وهو دائم القلق والسؤال عنه، مثلاً يختم في أحدى قصائده :
لا أستطيع النوم ،
يترآى لي وجه وطني
أخرج يدي خارج الغطاء
فلا أعثر على شيء .
أسأل أين وطني
يطن صوت في أذني
وطنك جثة
تكالبت كل طرق القتل على قتله.
للوطن وجه وجسد وروح وقلب، الوطن يسكن شاعرنا ويجعله كالمحموم يهذي، الوطن أيضاً حاله كحال شاعرنا تتشظى روحه، تتكالب الذئاب المتوحشة التي لا تشبع من الدم والتدمير لتسرق أوطاننا وهي تنهش في أرواحنا، هذه الروح القلقة والمرهقة في المنفى تكمن أسباب متاعبها والألم هذا البعد وما تتعرض له أوطاننا والتي ليست بعيدة عنا، في تجربة زكريا شيخ أحمد وتجارب شعرية عديدة نكاد نتشارك ونتقاسم هذا القلق والتشظي ونعيش الحالة نفسها فنستعين بالحلم والهذيان والكأس.
الكاتب والمخرج حميد عقبي