أولية فلسفة التدين عند حبيب فياض.
بقلم : د. قصيّ الحسين
-!-×-×-×-×-
تجربة الدكتور حبيب فياض في فلسفة التدين، بإعتبارها طرقا إلى الله في عالم متحول، إنما هي جزء عظيم للغاية، من سيرته المعرفية، ومن منهجه الأخلاقي، بل ومن تجربته الروحية، كما وصفه بذلك د. عبد الجبار الرفاعي، مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، في مقدمته التي صدر بها كتابه: ” فلسفة التدين: الطرق إلى الله في عالم متحول. دار الفارابي. بيروت2023: 375 ص.”
فعلى مدى مائة مقولة ومقولة، وزع الدكتور حبيب فياض، مادة كتابه، في خمسة فصول، ومقدمة وخلاصات لمقولاه المائة، ذيل بها كتابه. بالإضافة إلى التقديم الذي تصدر عمله، والذي ينوه بالكتاب. وهو بقلم د. عبد الجبار الرفاعي، الذي أطرى الكاتب، أكثر مما كان يطري الكتاب، في هذا التقديم. والذي شف عن عمق الصداقة بينهما، المبنية على تقادم العهد، وعلى الرابط الفلسفي الديني الذي يجمعهما، بالإضافة إلى تنويهه بمجهودات الكاتب البحثية في هذا الإتجاه، والتي تضع العقول أمام أسئلة مختلفة ومداخل متنوعة، من خلال ما قام به المؤلف، من توظيف علم النفس وعلم الإنسان والإجتماع واللسانيات. ومن خلال عمله أيضا، على زحزحة التدين، وإدراجه في حقل الفلسفة. فبراعة الكتابة عنده، كما يرى د. عبد الجبار صاحب التقديم، تمثلت، من خلال مبادرة المؤلف، لوضع القارئ أمام مشكلات عميقة، وحث ذهنه على التفكير إن معه وإن ضده، لا فرق. “ما ينقل الذهن إلى التفكير خارج الأسوار المغلقة على الدوام”. إذ تجد في الكتاب، ما يدعوك إلى التفكير ضده. كما يقول د. عبد الجبار نفسه.
أما الكاتب، فقد قدم لكتابه بمقدمة، حوت خمس مقولات. كشف فيها عن أوالية منهجه في فلسفة التدين. منوها بأن عمله هذا، إنما هو خطوة أولى في مسار طويل يقطعه، على طريق تأسيس ما يسمى بفلسفة التدين. وأن المسألة التدينية، كما يرى، إنما تعود بأصلها إلى معقولية الدين. وأن ما يضر بالوصول إلى درجة الإيمان، إنما هو كامن فيما أسماه “الشروط التصعيبية” أي الصعبة. والتي توضع في الطريق إلى الإيمان وإلى الدين. وأن بحثه هذا إنما هو عصارة تجارب شخصية وتأملات ذاتية، تتجاوز الضوابط البحثية المعهودة. بحيث أتى بشبه سردية لقصة الدين والتدين. ثم يقول أخيرا في الفقرة الخامسة، إن فلسفة التدين عنده، نمط من الإرشاد الفلسفي. وهي “تهدف بالتالي إلى الإنتقال من فهم الدين وإثبات حقانيته والدفاع عنه، إلى كيفية الإلتزام به والإستفادة منه، وإتخاذه طريقا للخلاص.”وبذلك يكون المؤلف، قد كشف عن أوالية فلسفةالتدين، التي يريد من القارئ، أن يتعرف عليها.
غلاف كتاب د. حبيب فيّاض
على مدى مائة مقولة ومقولة، كما قلنا سابقا، يوزع الكاتب مادة كتابه. بحيث نقع على خمسة فصول متوالية متدرجة ومتوازنة، كالتالي:
1- يفتتح عمله بالحديث عن الدين والفلسفة، معتبرا أن الفكر الديني، ما إستطاع تجاوز مؤثرات النقد والتشكيك، مما جعلها من مكوناته، تسهم في تشكيل هويته بمختلف تياراتها وإتجاهاتها. وأن الفلسفة شكلت المدى النقدي الأعظم في النظر إلى الدين. وأن صيرورة الدين موضوعا معرفيا، كان من بين المسائل التي إشتغل عليها، الفلاسفة، وأهل الدين. وأن الغرب وجد في التنظير الفلسفي مسارا طويلا، ينتهي أولا بأول، إلى عوامل متداخلة. وأن إنقضاض الفلسفة الغربية على “الدين”،إنما هو مرتبط بعوامل موضوعية، أحسن الفلاسفة إستغلالها وتوظيفها، للتفوق على سلطة “الدين”. وأن الفكر الفلسفي الغربي، كان يتعاطى مع منظومة التفكير الديني، بما فيها الإسلام، لتتم محاكمته، من جهة ظاهراتيته التاريخية التي مارسها المسلمون. وأن المنطق الأرسطي، ظل يسيطر على المعرفة الدينية. وأن عقيدة التوحيد، إنما هي مرتبطة بالواقع وبالحياة. وهو ينتهي للقول في هذا الفصل، ألى أن الإسلام منظومة من التعاليم المقدسة، وعدم الإلتزام بها، لا ينتقص من شأنها في شيء. كما يقول المؤلف.
2- يفرد الكاتب فصلا عن الدين والمعرفة الدينية، إذ يعتبر أن معرفة الله من حيث وجوده ووحدانيته وماهيته وصفاته وأفعاله، إنما هي من طرق الوصول إلى المعرفة الفلسفية والدينية. وأن الفقه، إنما هو حالة إنتزاعية مرتبطة بالعلم، مبينة لحدود الأحكام الشرعية. أما الإلتزام الفقهي، فظاهرة مرتبطة بالإنسان، ترتب عليه آثارا واقعية. ولهذا يجب النظر في أداتية العلم وغائية التكليف، وما تدعي فلسفة الفقه أنها قادرة على المساهمة في تشكيله.
3- وتحت عنوان الدين والتدين، يبحث الكاتب، إشكالية الربط بين ما هو نظري، وما هو تطبيقي. لأن الدين إلهي الوجود بشري الفاعلية. وأن إشكالية التدين إنما هي في عمق عمقها أخلاقية، وليست فكرية. ويتابع الباحث طروحاته، لينتهي للقول: ” أيا تكن الممارسة التدينية فهي لا تخل في جوهر التدين، ما دامت تلتزم المسار الأخلاقي للدين. ثم يتساءل: أين هو الخلل تحديدا في عدم التطابق بين الممارسة والتطبيق.؟
4- يبسط المؤلف أفكاره، في فلسفة التدين، من خلال ماجاء به من مباحث تمهيدية. فيرى أن مصطلح فلسفة التدين، منتج حديث الولادة. ولهذا فالعمل على التأسيس له وبلورته، لم يكن ترفا فكريا. كذلك يرى أن هناك أمرين ينزعان بالإنسان نحو التدين يقول المؤلف: بداهة وجود الله. ويقينية الموت. أما خوف الإنسان من الموت، فهو يدفع به إلى الإيمان والتدين. لأن الموت هو بلوغ المرحلة الأخيرة من مسيرة الكدح الإنساني. ولهذا فإن التفكير بالموت، هو التفكير ببلوغ مرحلة الإمتحان به. وعنده: “ليس المهم ما يعانيه الإنسان في الدنيا، بل المهم، ما هو مصيره في الآخرة. إذ هي الأولى بإنشغال الإنسان بها وبتوجيه التفكر في شؤونها.
5- يتحدث المؤلف أخيرا، عن فلسفة التدين، من حيث ماهيتها وموجباتها ووظيفتها. فليس الدين عنده، مجرد تعاليم نظرية، بل هو طاقة معنوية محفزة للإرادة. وفلسفة التدين، غايتها الجمع بين البحث النظري في التدين والبحث التطبيقي في الدين. ويقول في المقولة المائة، إن ثنائية الدين/ التدين، إنما تقوم على التواصل بين طرفيها. فالدين فاعل والتدين منفعل. وأن التدرج المعرفي في جميع الرسالات التي حملها الأنبياء، إنما ينطبق على الإسلام من حيث المضمون الموحى به، ومن حيث التوجهات البشرية وطبيعة التلقي. وكل هذا ينتهي بنا للبحث عن ماهيات وعلل وغايات نجد فيها ما يميز الفلسفة في مختلف المجالات عامة، والتدين خاصة. بإعتبار أن التدين هو مجال من بين المجالات الكثيرة التي تنشغل بها الفلسفة عادة.
وفي الختام، يعمل الكاتب على تلخيص مقولاته المائة في فلسفة التدين، واحدة واحدة، كأنه يريد تثبيت الأفهام، وتخفيف الآلام. مما طرحه في مباحثه الطويلة. فكان بذلك معلما. ولو أنه لم يتطرق لتوضيح العنوان الفرعي الذي أثبته تحت العنوان الأساسي. فأغفل الحديث عن توضيح ما يعنيه من قوله “الطرق إلى الله، في عالم متحول”. لإعتقادنا أن ذلك من الأمور التي تحتاج إلى فلسفة، لا إلى سردية فلسفية، كما بان لنا، من خلال كتابه الشيق. إذ هناك بون شاسع، بين النظرية الفلسفية المتكاملة، في بحث أوالية التدين، وبين السردية الفلسفية للتدين التي قدمها. وما لم نميز بين هذين الإتجاهين، فإننا نوقع أنفسنا في وهم فهم الطرق إلى الله، في هذا العالم المتحول، الذي لم يوضح الباحث أي جنب من جنباته. ولا أي مظهر من مظاهر تحوله. ولو كان قد فعل ذلك، لأتحفنا بعمل فرد، لم يتطرق إليه أحد بعد.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين