أماكن عامة/الحلقة 3
مدرستي
-×-×-×-×-×-
ثلاث غرفة متلاصقة، في صف واحد، هي مدرستي التي تخرجت منها. نلت فيها شهادة السيرتفيكا، أعظم شهادة كانت في زمانها. مستطيل من الأرض، بنيت عليه المدرسة. وقسم البناء إلى ثلاث غرف بجدران فواصل في المستطيل: ثلاث غرف متراصة ملتصقة ببعضها، ظهرها لريح الشمال، وواجهتها لريح الجنوب. فوقها الطريق العام للقرى. وتحتها، طريق ترابية إلى البساتين والحقول، والحارة التحتا، المتخفية تحت أشجارها. وطرف بستان، فيه شجرتان عظيمتان من أشجار الجوز، تظللان الجانب الغربي من أرض الملعب. غرست جوانبه، بأغراس السرو، في يوم الشجرة. وساقية ماء، تجري من الجنوب إلى الشمال، تروي الحقول البعيدة من الخلف. تلك هي المدرسة. مدرستي التي لا أنساها، لأنها لم تكن في يوم من الأيام، مدرسة من المدارس الرسمية، ولو من الدرجة العاشرة.
بناء متراص من الحجر الأسود الجميل، المكنف بالكلس الأبيض. وسقف من الباطون المسلح. لا زال يحفر في الذاكرة. بني، على أرض جبانة البلدة، بعد عشرين عاما على تأسيس المدرسة الرسمية في القرية. إتفق عموم الأهالي على نبش وتعرية ما تبقى من قبور أجدادهم، لبناء مدرسة لأولادهم، بعدما ضاقوا ذرعا بشتات صفوف المدرسة، في يواخير قريتي.
ذات يوم عزم الوجهاء والمقدمون، على تسوية الجبانة بالأرض بعدما حاذتها الطريق المعبدة حديثا، وأخذت قسما منها. أضافته لتوسعة الطريق العامة إلى القرى المجاورة. فإستكملوا نبش القبور بعد ذلك. وكذلك تسوية الأرض. ونقلت رفاة الأجداد، إلى علوة من الجبل الغربي، حيث بيدر الفول. بيدر البيادر للقرية الحانية.
إتفق الشركاء من الوجهاء في الهدم، على البناء بالتبرعات، والتأجير لصالحهم. جمعوا المال من الأثرياء الأتقياء المحسنين بطرابلس والجوار. كانوا يحاصصون التبرعات. وما تبقى في الصندوق بنوا منه ثلاث غرف للمدرسة الرسمية. ولو بنوا بما جمعوه كاملا، لكان بناء مدرسيا كاملا. أجر للطلاب، وتحاصص الوجهاء أجرته، وكانت وجهة الإستعمال: مدرسة.
هكذا بنيت المدرسة، على طريق المحاصصة اللبنانية، ونهب التبرعات، حتى لو كانت جبانة القدماء. حتى ولو كان ذلك لصالح توسعة الطريق. حتى ولو كان ذلك، لبناء مدرسة. لبناء إبتدائية.
كان إمام الجامع، قد سبقهم. سوغ لهم وضع اليد على ما تبقى من الجبانة. أول من جمع مال التبرعات، وبنى لنفسه سكنا من غرفتين، وباحة أمامية، تطل على الطريق المستحدثة، ونبش القبور، في القسم الأول من الجبانة. وإستكمل رأيه، بأن تكون فضلة الأرض، عن داره وعن الطريق المستحدثة، أرضا تمهد وتشيد عليها مدرسة.
كان إبنه، هو الأستاذ والمدير، على مدرسة مشتتة، لعشرين عاما. وجاء إبنه، بشهادة السيرتيفيكا، مدرسا، بعدما إستحدث له مدرسة رسمية، في القرية. كانت حاجة القرية ماسة لها. وكان نفوذه ضاربا في التربية. وكان إبنه، أول من حمل شهادة رسمية. فإجتمعت له. وإجتمعت للقرية، ظروف صالحة لبناء بيت الإمام، ولتوسعة الطريق العام. ولبناء وتأسيس أول مدرسة رسمية، على أملاك موتى.
تم تأسيس المدرسة في العام1936. كانت أول مدرسة تؤسس، في تلك القرى، لحاجتين إثنتين: حاجة إبن الإمام، لتعيينه مدرسا، في حضن والديه. وحاجة أبناء القرية للمدرسة. حيث لا توجد في تلك النواحي مدرسة.
إفتتح عصر المدرسة، في إسطبل صغير في وسط القرية. وعين إبن الإمام أول مدرس فيها. ثم إحتاجوا بعد عام، إلى غرفة ثانية. إستأجروا، ياخورا آخر. إسطبلا آخر. وتوسعت المدرسة بالتعيينات الجديدة وبالصفوف الجديدة. وظلوا يفتشون عن مستودع مهجور، عن إسطبل. يستأجره، نافذ في القرية، ويؤجره لطلاب المدرسة.
عشرون عاما، كانت المدرسة مشتتة. بين بيوت القرية القريبة من مجتمع الساحة العامة. كنت في واحد من الإسطبلات القديمة. نجمع المقاعد قبل مغادرة المدرسة لتدخله فرس صاحب الياخور بعدنا. ثم يعود في الصباح، فينقلها، إلى تحت شجرة زنزلخت عظيمة، أمام الإسطبل. أمام غرفة المدرسة. فننهمك، في تنظيف أرض الإسطبل من الأرواث، قبل قدوم الإستاذ وقبل إعادة توزيع المقاعد والجلوس على مقاعد الدراسة.
كان ذلك أول فرض من فروضنا المدرسية. مثل حمل الخشبات للكانون، في شهور البرد والزمهرير. كانت الفروض المدرسية هذة، أعظم، بل أثقل من جميع فروض المدرسة. أثقل من درس القراءة. ومن درس الإملاء. ومن درس الحساب. ومن درس القراءة الفرنسية.
نهض البناء المدرسي الجديد، في العام 1956، بالشراكة والتفاهم. بالتوافق بين المصالح العامة والمصالح الشخصية. وإنتقلت الصفوف، إلى المدرسة الجديدة. كنت قد أمضيت عاما أو بعضه، في إسطبل الخيل. في زريبة الماشية، لا أدري. ولكني كنت كغيري من التلاميذ الصغار، أنفذ أوامر المدرسين والمربين و الأساتذة. بتنظيف الأرض، من الروث. وبحمل الحطبات إلى كانون المدرسة.
كانت المدرسة الجديدة جميلة. أرضها من الباطون، لا أرضا ترابية. كانت الجدران نظيفة، بيضاء كلسية. كانت شبابيكها تطل على الجنائن والبساتين. كان جدول الماء يجري تحتها. كانت الطريق العامة فوقها. كانت الساحة تتسع ملعبا لنا. تتسع معرضا لنا. تتسع لجميع الإحتفالات القروية والمدرسية. وكان منزل الإمام، قبالة مبنى المدرسة.
كانت الغرف الثلاث، تضم خمسة صفوف، وطاولة للمدير. فما كان لها ناظر. كان المدير، هو المدير وهو الناظر وهو المدرس، في الوقت نفسه. فلا تفرغ للإدارة ولا للنظارة. وما عرفت المدرسة صفا مستقلا. كانت الغرفة تضم بين جدرانها صفين. كان الصف الثالث والصف الرابع في غرفة واحدة. وكنت في الغرفة نفسها لعامين، لأني كنت تأخرت في السنة المدرسية الثالثة.
كنا في فرصة العاشرة نخرج للبساتين، نطلب الجوز واللوز والعنب وحبات التين. كنا نتحرى عن أصحاب البساتين. نزور بساتينهم في غيابهم. نأخذ منها وجبة الفطور، من الثمار الشهية. كنا نصل إلى شجرة الكستناء البعيدة. وإلى حقلة الخيار. نغزوها. ثم نعود إلى الصف، قبل قرع جرس المدرسة. فما كان الملعب مسورا. وما كان له باب. ما عرفنا للملعب الصحراء بابا.
كان أساتذة المدرسة، كما المدير، صارمين، في تأدية واجباتهم المدرسية. كنا نتقدم في المدرسة صفا صفا. وكان التأخر ، كما التسرب المدرسي، قليلا ونادرا. وكان الصف الخامس النهائي، يشغل بال المدير، بصورة دائمة. يوليه إهتماما خاصا، حتى يفوز الجميع في إمتحانات الشهادة الرسمية.
كنا نتأخر في الصف، بعد الدوام الرسمي لساعتين. وكنا نأتي إلى المدرسة، في أيام العطل الأسبوعية. ما كنا نعرف العيد إلا ليوم واحد. لأن الشهادة على الأبواب. ولأن المدير والأساتذة قبل التلاميذ، هم أمام الإمتحان. كان التعليم الرسمي، حقا مسؤولية جسيمة.
كان المدير والناظر يلاحقنا خارج دوام المدرسة. يريد الإنضباط في المنزل، لمتابعة الفروض المدرسية. فما كان أحد يجرؤ على الخروج من منزله، بعد الإنصراف من المدرسة. فما كنا نجرؤ أن نذهب إلى دكان القرية لشراء حاجة للبيت. ولو كانت علبة كبريت، أو زجاجة قنديل. كنا ننال الجزاء في اليوم التالي، على التقصير المدرسي وعلى الخروج من البيت، بعد الإنصراف من المدرسة.
كان قضيب الرمان، كما الفلق، بإنتظارنا كل صباح. على درس القراءة وعلى درس الإملاء، وعلى حفظ الإستظهار. وعلى درس الأشياء والجغرافيا. كنا نكتب الجزاء طوال الليل، بأكف تورمت، من قضيب رمان، نحن أتينا به من البستان، لأستاذ المدرسة. لناظر المدرسة.لمدير المدرسة. كنت أشهد على نصب الفلق للفتيات المقصرات. يغطي المدير، ساقي الفتاة بجاكتة. يخلعه عن كتفيه. يولي تلميذين الإمساك جيدا. ثم تتوالى العصا، على القدمين، كما في سجن النساء أحيانا.
كانت صرامة الأساتذة، من صرامة المدير. فما كانوا يتهاونون في الحضور إلى المدرسة. وماكانوا يتهاونون في متابعة الواجبات في المدرسة. وما كانوا ينشغلون عن تلاميذهم. كان التلاميذ أبناء لهم في دروس التعليم والتربية. كان ينشئون الصداقات معهم. يفرحون للنجاحات. ويأسون لفشل من يفشل. كان الأستاذ، واحدا من الأهل، الأشد حبا لأبناء المدرسة.
كانت حيل التلاميذ على أساتذتهم، لا تصدق. كان التلاميذ يتآمرون، على درس الحساب، وعلى درس الإملاء. وخصوصا، الإملاء باللغة الفرنسية.
كنا ندخل المدرسة ليلا، بعد أن ينام أهل القرية. نسطو على دفاتر التحضير. نعرف مسبقا، بالمسابقات. نحلها معا. ونرتب العلامات لأنفسنا. حتى تحير الأساتذة في سرنا. لم يعرفوا بأمرنا، للتكتم الشديد بيننا. وقد بحنا بذلك للمدير، بعد أن صرنا أساتذة في المدرسة.
كانت مدرستي، لكل تلاميذ المنطقة.يفد إليها التلاميذ الصغار من القرى البعيد، تحت الحر، تحت الزمهري، مشيا على الأقدام لساعة ونصف ساعة. يتهالكون بعد وصولهم، من كل الطوائف، فلا نشعر بالبعد عن بعضنا. كان السؤال عن الطائفة مهين. كان العقاب شديدا، لمن يهين طائفة.
خرجنا من المدرسة، بالشهادات. كانت مدرسة القرية الرسمية تنافس أعظم مدرسة خاصة. كنا إكتشفنا ذلك، عندما، تقدمنا من إمتحان الشهادة.
آه، ما أفظع تلك الأيام. ما أقسى حلاوتها. ما أعظم الحلاوة في مرها. آه ما أدهشنا، حين كنا نقترف العلم. حين كنا نقترف حب الأساتذة. حين كنا نقترف حب المدرسة. حب صفوق المدرسة. حب تاريخ المدرسة الرسمية في القرية. تلك المدرسة التي إقترفت تعليمنا، فيما إقترفت علينا: ألف باء الشهادة. أسست على جمر الطفولة، التي ذقنا أيامها المرة، كما يذوق الرجال أتعابهم، كما يذوق الرجل مسامير الخشبة، في الليالي المظلمة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين