المشهدية الدرامية في الشعر التهامي اليمني..أغاني الجَمَّالة نموذجاً
بقلم الكاتب والفنان اليمني : حميد عقبي
-×-×-×-×-
تكثر الكتابات والدراسات عن مشهدية القصيدة العربية المعاصرة
وتأثرها الكبير بالفنون التشكيلية والسينما والمسرح والتصوير وغيرها ولكن هذا لا ينفي وجود مشهدية درامية في الشعر الجاهلي مثلا وغيره، فقد كان لكل عصر فنونه وهناك فنون شعبية قديمة أصبح ممارسيها ومحترفيها قليل جدا وفي تناقص مستمر لآنها تتطلب لياقة كبيرة وأضرب مثلا لعبة القفز على الجمال في تهامة اليمن أو رقصة نسميها المسايفه وأخرى نسميها الحمره وفي بلدننا العربية توجد الكثير من الألعاب والرقص كان يتم تقديمها مشهدياً وفرجوياً وكرنفالياً، ربما إذن الرأي الذي يذهب بكون المشهدية درامية مجرد نتاج ظهور السينما وغيرها فحدث تحولات لخلق مشهدية..هذا الطرح ربما يحتاج لمزيد من النقاش، أميل كثيراً لفهم أن الشعرية في الشعر لا يمكن أن تتحقق دون مشهدية درامية وهذا ينطبق على القديم والمعاصر.
الشاعر عبدالله البردوني : الفن التهامي لا يتلهى بالتجانس والتطابق، وإنما يعبر عن نقائض يومياته
ونحن هنا نتناول نموذجاً من الشعر الشعبي التهامي وجميع أنواعه ماتزال غنائية ومحكومة بقواعد وأوزان مع ذلك نجد الكثير من النماذج تضج بالمشهدية الدرامية والتمسرح والألوان، برغم التكثيف والإيجاز وعشق المحسنات البديعية كالجناس وغيره إلا أن هذا كله لم يمنع خلق قصائد إبداعية فائقة الجمال وتتسم بالديناميكية والحركة والدراما، هنا يكون التعجب والدهشة كبيرة خاصة من شعراء لا يعرفون القراءة ولا الكتابة وسنجد أن الشاعر اليمني عبدالله البردوني، في كتابه فنون الأدب الشعبي، أظهر الكثير من الاعجاب بالشعراء الذين لا يجيدون الكتابة والقراءة من الرعاة والفلاحين ويسأل عن كيفية ظهور التجنيس والإبداع فيه ويرد ص360 (لعله أتى من زرقة السماء وصفرة الرمال ومن زرقة البحر وسمرة الزنود، ومن العبودية الاقطاعية والتوق إلى التحرر، فقد كانت تهامة هدف الغزو على امتداد العصور…وكان الإنسان التهامي غنيمة المنتصر وضحية المنهزم، ومع هذا فقد كان رافضاً تلك الظروف الشاذة وباحثاً عن الأفضل في الحكم والمعيشة) ويضيف في الضفحة التالية ( فإن الفن التهامي لا يتلهى بالتجانس والتطابق، وإنما يعبر عن نقائض يومياته، على أن الجناس ليس سبباً وحيداً في ضعف الفن ولا سبباً في جمالياته، وإنما موقعه في تركيب الصياغة هو الذي يجمّله أو يُهجّنه. ولعل الفن التهامي لا يتكلف الصنعة، وإنما تجري فنونه على سجيتها كما تنهال الرمال وكما تتصاعد قامة الدخن.)
إذن هذا الرأي لو فهمناه فهو لا يتوقف لدى الجناس والذي يشير إليه البردوني أن كثرة صناعته أدت لضعف الشعر وخاصة في شعر الوصف والمدح بالعصر العباسي ثم المملوكي، موضوعنا هنا يركز على المشهدية الدرامية ولست خبيراً في الأوزان ولا القواعد البلاغية ومن خلال النماذج التي أقدمها يمكن أن يتناوله أي باحث أو ناقد من جهة أخرى بلاغية أو قواعدية أو حتي لسانية، وأن نتناول نماذج من قصائد وأغاني الجَمّالة والجَمّال هو صاحب الجمل أو عدة جِمال لنقل البضائع بين المدن وكان أبي رحمه الله جَمّالاً في شبابه وبعدها أسس معمل عصارة زيت سمسم شعبية تعمل بالجمال وأنا في طفولتي كنت أساعده وكنتُ محباً لهذه الحيوانات العجيبة أقصد الجمال، فالجمل يصادقك ويحبك إن كنت لطيفاً معه ويغدر بك إن أذيته أو ضربته فهو لا ينسى حقه وينتقم من ظالمه.
وحتى لا أطيل بمقدمات مرفق هذا النموذج ونقلت النص من تسجيل قديم بصوت المغني صاحب القصيدة وأرسل لي أحد الأصدقاء برابط الفيديو المنشور على صفحة فايسبوكية تسمى تحية إلى قبائل الزرانيق وكما ذكرت أكثر من مرة تظهر صفحات وقنوات ثم تختفي أو يتجمد نشاطها وسيكون من الجيد أن تسمعوا النموذج، وفي حال وجود كلمة غير صحيحة يمكنكم تنبيهي فقد بذلت ساعات عديدة وطويلة لنقل النص، والشكر الجزيل لكل الناشطين الذين ينشرون مقاطع لقصائد شعبية تهامية قديمة بعضها يعود لأكثر من سبعة أو ثمانية عقود ولا يوجد إلى يومنا هذا مركزاً لتوثيق التراث والموروث التهامي وأعني مركزاً به امكانيات وتقنية وأدوات، توجد عشرات المنتديات الشبابية ومن الجيد أن تستمر ونتمنى للجميع التوفيق.
ندرة البحوث العربية في مجالات الفنون الشعرية الخاصة بالجَمّالين
استبعد الباحث د. خالد الأهدل في الشعر الشعبي في تهامة والذي قدمه عام 2004 كأطروحة مقدمة لنيل درجة الماجستير من كلية الأداب بجامعة صنعاء، بعض الأنواع مثل الشعر الهبري وشعر الجَمَّالة وشعر المطحنة والمهد وبعض الأنواع الارتجالية واعتبرها أقرب للدراسة الفولوكلورية والاجتماعية والأنثروبولوجية وأكتفى بالأشكال والأنواع التي تحوي قيمة أدبية عالية وذات تقاليد فنية وجمالية راسخة.
وربما لا توجد دراسة متكاملة ولا أطروحة جامعية يمنية تكون قد تناولت هذا النوع من الشعر والغناء بشكل معمق، بينما تتوفر القليل من البحوث والكتب العربية تتعلق بالموضوع منها كتاب الجمل: التاريخ الطبيعي والثقافي، المؤلف: روبرت إيروين وترجمة أحمد محمود والصادر عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ويبدو ندرة البحوث العربية في مجالات الفنون الشعرية الخاصة بالجَمّالين والإبل وحياة البدواة.
النموذج من أغاني الجَمّالة في تهامة اليمن
أآآه أنا..أنا شازم لي يختُل اليوم صرعى
ما شاش أنا لا تنُصد شاكون أديلو وشرعى
أنا اما لقيت غزالة تلعب
أربع مذارع وأمقطى تترعى
على وادى بناء تروى بحد أمنقى
أنا ما دراك على طير جزع لي
جنحو السماء وجنحو أمقع
أنا مضحكوا كمبارق
ضوا على شعوب القدقع
أنا يا رتئيت موزع
من سابع بحر يتسقى
وأآنآ وأآآنآ أنا يا كافل بالعباد بحرو وبر
أنا شرمي امطير رميت أموبر
مادراك على طير خطر
ريقه حاليو كمسنكر
شادير في أمحنجره شاتشجر
أنا مثل أمذباب شأتصور
شأهب سنه والف شهر
ديمو كمحرير يتنافر
كمن باطنه ذهبو احمر
كما أسواقه كم امفضه
من عند صايغ مصولْ
صب امدفتر قوامه
حالي كم امشرعبي يتقطلْ
ووووأُنا أنآ آ انا خلقو ذحين شوفنا مَجلب زلْ
أنا ريقه في أمثم مدابشّ بعسلْ
أنا مرعبه كمخنجر
كما جبينو جرملي وطالب شرْ
ما دراك لا على حلى في أمبسم
أنا عيون البريك جرملي وبسبع نمر
أنا جعدو كمثل أمنطر
كما أنا مضحكه كمبارق ضوى على بر أعجمْ
ضوى على التواهي والمعلاء وعدنْ
وعلى الحبشتين والدنْ
أنا جسمو ذو روح العنبر
ديمو رنجسو وفلو أخضرْ
أمطير جنح ونفرْ
كما بنان المضر جند شتمضر
كما صدرو كعنمبى مشيم
كما بطنو نصلو حضرمي وامسيل
كما سواقه شاروح ترنجح لي في أمسمر
أنا أخضر وباهي أمبسم
ما دراك على حبه خضاريو شتآتمر
أنا يا من طعم منوه حبه
لو يكون شيبه كتذوقه يرجع ثمانين سنه يتعمَّرْ
وأ ناَّ وأ ناَّ وأ ناَّ وأ ناَّ
لكان يِذمنا أمشيب زمان
مادومنا اسال خلي واسال اميبلي وامجَمَّال
أنا بديت بعد أمجَمَّال قضمتين قعطبة والحيظان
أنا بديت بعد أمجَمَّال قالوا لحج عند السلطان
أنا بديت بعد أمجَمَّال قالوا أبها وروح ملحان
ووووأ ناَّ ووووأ ناَّ وأنا لكان يِذمنا أمشيب زمان
شابدأ على حرف اللام
وووأ ناَّ أنا شانسى الرويشان على عدد الشهور والأيام
وووأ ناَّ ووووأ ناَّ وأ ناَّ وأنا وأ ناّ
أنا شأحفظك كما البيت حفظه الرحمان
ووووأنا ووووأنا أنا لا لا أنا
أنا أرضو سنا يختل ما يعتل من غُله
أنا شاودي لعيني سنتين
وأمزهر شكاد خُلّهْ
أنا نفسي انعم من ماي يختلْ
أنا يا معي ذنوبو كلهْ
كما وا قحم نادى ربك وأدعى كما احنا دعيناْ
طوفنا الحرم والكعبة كما على الجبل لبيناْ
شاسقي أنا لا ياوادي يختل بينه كم من شرايج بينهْ
من نحنا زمان يبان شرقو خلينا أمحوش واويناْ
كما قام أمرعوي ذبح لنا كبشوا سود وأمشرعبي وأتكيناْ
قبل الدخول للنص من هم الجَمّالة؟
قبل أن ندخل للنص أود توضيح نقطة مهمة عن الجَمّال، الجَمّال يختلف كثيراً عن مربي الإبل لآن الأول أي الجَمّال شخص يسافر لمدن كثيرة ويختلط بثقافات وناس وعادات وتقاليد وراعي ومربي الإبل شخص لا يحتكُ كثيراً بالمدنية فهو ينتقل مع إبله في المراعي بحثاً عن الماء والعشب وإن وصلوا قرب مدينة يظلون في أطرافها ويذهب واحد منهم لبيع حليب النوق أو القارص وهو مثل الريب أو الزبادي وطعمه حامض ومحبب فقط للنساء والأطفال الصغار ويؤكل مع العيش الحامض، لهجة رعوي الإبل صعبة كثيراً وخاصة لأهل المدن ولهم أهازيجهم الخاصة التي يسلون بها أنفسهم ويستخدمونها لقيادة قطيع الإبل والتي هي لا يمكن أن تتفاعل مع المدينة وأزقتها وليست اجتماعية ولا تحبذ الغرباء فهي تعرف فقط رعاتها، بالنسبة لجِمال نقل البضائع هي تألف المدن والناس وليست خطيرة وهادئة.
وجدت مقالاً للدكتور عبدالرحمن زنوني على الموقع الإستشارى لإنشاء مزارع الإنتاج الحيوانى ومن الفائدة أن نقرأ ويذكر بعض صفات صنف إبل الحمل فهي (من ضخامة الجسم ، متانة العظام ، قوة العضلات ، شدة المفاصل وضخامة السنام ، اتساع الصدر ، كبر الخف ، يتراوح ارتفاع إبل الحمل حوالي 1.4ـ 1.9 م ، ويصل وزن الذكر منها 550ـ700كغ .
يبدأ تدريبها على حمل البضائع بعمر 3 سنوات وتصبح على أشد قوتها عند بلوغها 4 سنوات ، تستطيع حمل 160-290 كغم والسير بها بمعدل 4 ـ 6 كم في الساعة قاطعة مسافة 12ـ 14 ميل في اليوم ومن صفاتها أيضاً الرأس والرقبة كبيران ، الكتفان غليظان ، الأرجل الأمامية والخلفية قوية وعريضة).
يعلم الجميع مكانة الإبل عند العرب القداماء فهي المال والثروة والرفيق في السفر، وربما يكون الغناء للإبل أو ما يسمى “الحُداء”من أقدم الفنّون العربية المبتكرة وتكون البداية تدوية أو دواهة مثل (واه ، يا أه ، هيد… هيد” أو دوه…دوه) ويبدو أن التدوية تخص الإبل في المرعى وهي غناء خاص للإبل ليسهل تجميعها وقيادتها وضبطها وتنظيمها لذلك تكون بسيطة تتسم بالغنائية والطرب وبالصوت فقط وقد تكون مقاطع قصيرة جداً مقفاة بعيدة عن التعقيدات البلاغية ويعاد ترديدها والمزج بين الأبيات، وبالنسبة للجَمّال وإبل القوافل أي الركوب والحمل فنجد القصائد متوسطة وطويلة ومغناة أيضاً لكنها أكثر بلاغة من تدويه إبل المراعي وهي وسيلة لتسلية الجِمال حتى لا تحس بالتعب والإرهاق وثقولة الحمولات وهي أيضا تسلية للجَمّال الذي يقودها وتسلية للراكبين وخاصة في رحلات التجارة الطويلة ورحلات الحج وقد ذاع صيت هذا الفن في صعيد مصر وبلاد النوبة والسودان ولم تظل محصورة اًفي الجزيرة العربية وكل منطقة أو بلد تغني بلهجتها المحلية ولذلك نتصادف بمفردات وكلمات شديدة المحلية ولا نجدها في القواميس العربية وقد تكون الكلمة تلاعب لفظي بكلمة أخرى يبتكرها المغني أو يمارس حذف حرف أو حرفين لتناسب القافية والتي يمكن أن تتغير بالقصيدة الواحدة وربما نجد مقتطفات ونماذج قليلة في كتب الأخبار والأسفار مثل كتاب كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للراوي والمورخ أبو الحسن المسعودي وقد كان رحالة وجغرافياً وينسب المسعودي بداية التدويهات إلى مُضر بن نزار ويذكر المسعودي في كتابه “مروج الذهب” وأنقل لكم بتصرف الحكاية : أن مضر أصيب بكسر بيده وو يروي إن الإبل، فصرخ متالماً(يا يداه ..يا يداه) وكأنه لحنها ليهون عن نفسه فكان تاثيرها جيدا على الإبل التي انتظمت وهكذا أصبح العربا يرجزون لإبلهم بكلمات على نفس الوزن أو مقاربة له.
الجَمّال صاحب تجربة ومحتك بثقافات وفنون متنوعة
وللجَمّاله قصص كثيرة جداً كونهم يزورون ويسافرون كثيراً ويرون
حتى قصصاً فيها الكثير من الخيال والفانتازيا مثلاً الأضاريط وهم الْجِنّ فعندما يسيرُ جَمّال لوحده أو بمجموعة صغيرة في الخبوت والصحراء فقد تظهر لهم الأضاريط ويرون ما يشبه قرية ويسمعون صوت كلاب وخاصة في الليالي المظلمة ويظنون أنهم قرب قرية فيسيرون نحوها لكن الأضواء والأصوات تبتعد لذلك يتوقفون ويظلون بمكانهم إلى الصبح حتى لا يضيعون أو يحدث لهم مكروه ويتميز الجَمّالة بأساليب بديعة سردية وشعرية وأغانيهم تسليهم وكذلك تبعث الحماس في جِمالهم وسنلاحظ في نموذجنا ذكر للكثير من المدن الحضرية مثل مكة وعدن والمعلا ولحج وغيرها وكانت عدن جوهرة الجزيرة العربية ودرتها المتحضرة في بداية القرن الماضي، فهذا الشاعر هو صاحب تجربة ومحتك بثقافات وفنون وعندما نسمع القصيدة مغناه منه وبصوته فقط دون أن يعتمد على آلة موسيقية مثل القصبة، آلة القصبة أو الناي التهامي يُستخدم في أغاني الفلاحين والرعاة ولا أدري إن كانت هناك دراسات حول أنواع والفروقات في آلة القصبة عند المزارعين والرعاة بالتأكيد ستكون هناك ولو فروقات صغيرة وكذلك في الألحان لآن الغناء والعزف والشعر كان جزء من الحياة اليومية وفي المهرجانات والكرنفالات وليس ترفاً.
بعض الإيضاحات لفهم النص
النص بلهجة تهامة وهذا النوع أظن له شهرة بجنوب تهامة وهو نص غنائي وكان الجَمّال يغني في المقاهي والاستراحات التي تنتشر بكثرة في طريق القوافل من تعز إلى الحديدة وإلى عدن وجنوب اليمن وكذلك من عدن إلى الحديدة ثم مكة والحجاز، نحن نحكي على لون غنائي ربما يكون عمرة مئة سنة ولم يكن التنقل بجوازات سفر، تهامة منطقة ثرية بالحبوب والتمر والعسل والمانجا والكثير من الأشياء كالجلود والقطن مثلا، وكانت تعز مصدر القات وخاصة القات الشرعبي وهو نوع يتحمل الحرارة ويتم لفه في ورق التين ويوضع في أكياس من الخيش وكذلك من عسف النخيل ليصل لمراكز المدن الكبرى وأسواقها وبكميات بسيطة ولم يكن تناول القات عادة يومية وكان تناوله في المناسبات للرجال الكبار والمقتدرين فقط وتناوله لساعة أو ساعتين وليس كما هو الآن.
يصرح الشاعر أنه شأزم لي أي سوف أسافر إلى منطقة يختل وهي قرية تهامية من قرى المخا وتتبع حاليا لمحافظة تعز، يختل قرية مشهورة جداً حيث فيها معالج روحي يسمونه صاحب يختل يعالج بالاعشاب وزيت السمسم، يعالج المس من الجنّ والشياطين وكنت في طفولتي أرى عدد من العوائل يجتمعون ويستاجرون سيارة خاصة للذهاب إلى يختل وأظن ذهبت مرة مع عائلتي لكني لا أتذكر شيئاً عن هذه الرحلة وأتذكر عدة رحلات إلى حمامات السخنة الدافئة وهي قرية تتبع مدينة المنصورية، هنا كما سنرى بالبداية التلاعب بكلمة أنا فتارة أناْ بتسكين الالف وتارة يكون قبلها (وأ ) وهي أداة نداء وأحيانا تكون أنا بالالف الممدودة ( آ ) ويتلاعب بها وتأتي أحيانا مثل فاصل بعد مقطعٍ له وحدة موضوعية وقد تتغير القافية، ربما هناك من كتب على هذا النوع من الباحثين وكما سبق ونوهت توجد كتب وأبحاث لكن كان نشرها محلياً وبعضها نفذت الطبعات وأصبح من الصعب الحصول عليها.
المقطع الأول
أآآه أنا..أنا شازم لي يختُل اليوم صرعى
ما شاش أنا لا تنُصد شاكون أديلو وشرعى
أنا اما لقيت غزالة تلعب
أربع مذارع وأمقطى تترعى
على وادى بناء تروى بحد أمنقى
أنا ما دراك على طير جزع لي
جنحو السماء وجنحو أمقع
أنا مضحكوا كمبارق
ضوا على شعوب القدقع
أنا يا رتئيت موزع
من سابع بحر يتسقى
لقد وجد غزالة ولا نفهم ما معنى غزالة الأب، أربع مذارع أي أربعة أذرع فهل هذا وصف لحجم الغزالة أم مساحة المكان الذي وجدها فيه، الغزالة تكون عادة رمزا للحبيبة ويأتي مناداتها بصغة المذكر في الشعر اليماني والشامي، على وادي بناء والذي يقع في محافظة أب أي التنقل من مكان لمكان أبعد كأننا في حلم وخاصة أنه استخدم تروى ويعود الفعل على الغزالة..إذن تارة يرى الغزالة ترعى وترتوي في يختل ثم في وادي بناء ويرسم مشهدية توحي بالخضرة (بحد أمنقى) أي بجانب شجر المانجو.
ربما أن الشاعر الجَمّال يذكر أماكن وأسماء لا نجد عليها معلومة والغرض أن ينتبه غيره للنص ويسألونه عن هذه الأماكن.
في أغاني الجمّالة كما في هذا النموذج نزعات تخيلية مدهشة مثلا
أنا ما دراك ما طير جزع لي
جنحو أمسماء وجنحو أمقع
أي لو تدرون أي طير مشى لي جنح في السماء وجنح في الأرض وبالتأكيد هنا وصف امرأة وليس طيراً أسطورياً ولنفهم أكثر يتابع قصيدته
أنا مضحكوا كمبارق
وهو على شعوب القدقع
أنا يا رتئيت موزع
من سابع بحر يتسقى
أنا مضحكة مسلية كمبارق والمبارق ربما يقصد بها بارِقُ : جمع مَبْرَق وربما هو صوت المدفع القديم في المدن والذي يُستخدم في المناسبات والأعياد ويبعث الفرجة والفرح، ثم يقول أنه يكاد يرى موزع وهي مدينة تهامية على البحر الأحمر وتابعة الآن ادارياً لمحافظة تعز، من سابع بحر يتسقى تعود للطير وربما كذلك للغزال وهنا ينتهي المقطع الأول من النص.
المقطع الثاني
البداية بكل مقطع يذكرنا بتدويهات العرب وكأنها مرسلة هنا إلى الإبل فهي عنصر متلقي ولكنها ليست المتلقي الوحيد، وهذا المقطع الثاني تغزل رومانسي
وأآنآ وأآآنآ أنا يا كافل بالعباد بحرو وبر
أنا شرمي امطير رميت أموبر
مادراك على طير خطر
ريقه حاليو كمسنكر
شادير في أمحنجره شاتشجر
أنا مثل أمذباب شأتصور
شأهب سنه والف شهر
ديمو كمحرير يتنافر
كمن باطنه ذهبو احمر
كما أسواقه كم امفضه
من عند صايغ مصولْ
صب امدفتر قوامه
حالي كم امشرعبي يتقطلْ
ينادي الله في البيت الأول، ثم يخبرنا أنه في رحلاته يصادف كم طير أي طيور كثيرة بمعنى جميلات ورميت أموبر ربما هو سلاح قديم بندقية قديمة أو تسمية الرصاصة وهنا الرمز لعشقه للجمال وبعدها يتفنن في غزله،ريقه حالي مثل السكر ويقصد ريقه وهو يغني نكاد نسمعها ريبه لآن الريب حامض الطعم، شادير أي سوف أتموضع داخل الحنجرة وأحتبس فيها، أنا مثل الذباب أي الذي يعشق الأشياء الحلوة، سوف أظل سنة والف شهر أي عاشقاً متنعماً بهذا الجمال، هي المرأة أو الفتاة جسدها فيه ليونة الحرير فهو يتنافر أي يتطاير، كأن في باطنه ذهب أحمر، وسيقانه من الفضة، من عند صايغ أصيل، حبة واحدة منه تذوق حلاوته كافخم قات شرعبي والقات الشرعبي كان يأتي من شرعب تعز.
إذن في المقطع الثاني تمادى المغني لوصف حسي للجميلة التي صادفته وصور لنا بطريقته الخاصة جسدها وأيضاً أحاسيسه لحظتها فهو يصور مشهداً ويصفه من نواحي عدة وكما نرى المشهد فهو الضحية وليس الصياد فهو من أصابته الرمية وكان هذا الطير هو الخطر وهو الذي أشعل هذه الأحاسيس والأماني.
المقطع الثالث
ووووأُنا أنآ آ انا خلقو ذحين شوفنا مَجلب زلْ
أنا ريقه في أمثم مدابشّ بعسلْ
أنا مرعبه كمخنجر
كما جبينو جرملي وطالب شرْ
ما دراك لا على حلى في أمبسم
أنا عيون البريك جرملي وبسبع نمر
أنا جعدو كمثل أمنطر
كما أنا مضحكه كمبارق ضوى على بر أعجمْ
ضوى على التواهي والمعلاء وعدنْ
وعلى الحبشتين والدنْ
أنا جسمو ذو روح العنبر
ديمو رنجسو وفلو أخضرْ
أمطير جنح ونفرْ
كما بنان المضر جند شتمضر
كما صدرو كعنمبى مشيم
كما بطنو نصلو حضرمي وامسيل
كما سواقه شاروح ترنجح لي في أمسمر
أنا أخضر وباهي أمبسم
ما دراك على حبه خضاريو شتآتمر
أنا يا من طعم منوه حبه
لو يكون شيبه كتذوقه يرجع ثمانين سنه يتعمَّرْ
المقطع يتسم أنه طويل جدا وتراه هو يصف تلك الجميلة وتاره يصف نفسه ويصور ما فعلته فيه، البداية تدويهة صغيرة ثم أنا الآن شاهدوني فقد زلْ أي ذهب وهرب المشهد أي مَجلب أظن يقصد الطير ونحن نقول يجلبب الطير قبل أن يبيض أي يجمع الأعواد الصغيرة يضعها لحماية البيض وخاصة الحمام، (أنا ريقه في أمثم مدابشّ بعسلْ) هنا بأعتقادي وصف لشعريته فجعل من فمه ليس فماً عادياً بل ينقط بعسل كما يقول المثل المصري وكثيراً ما نجد الشاعر الشعبي يعتز بشعريته أو يعطينا تعريفاً خاصاً بالشعر وبطرق غير مباشرة فالقوة الشعرية أن يجعلنا نحتار ونشارك ونختلف حول مقاصده وهو هنا يجذب محبوبته ولماذا لا تكون دعوة مغرية أيضاً للقبلات؟
أنا مرعب مثل الخنجر الحاد، مثل جبين بندقية الجرمل وكأني طالب شر أي شر يمس الطير، ما أدراكم بحلوة مبسمة، ربما يقصد أنه عيون بريك الجرمل أنه شديد الحذر وربما تكون أنا متنفس أو وقفة تحسر وكل الأوصاف تعود للطير، أنا جعد أي رجل وسيم، أنا مضحكة ربما يقصد حزنه وخسارته وهو أي الطير صار بره عجم أي بعيد جداً، فقد طار ربما إلى التواهي والمعلاء وعدن، ربما وصل إلى الحبشتين وأكيد يقصد الحبشة وجعلها مثنى ولغرض القافية.
أنا جسمو أدورو حِل عنبرْ
فيه مرنجه وكله أخضرْ
يبدو هنا وصف للجميلة أو أنه كمن يناديها بقولها إن جسمي قوي معطر، كأنه مرنجة وأظن يقصد الاترنجة أي الترنج ويسمونه الإطرنج وهو حلو وأخضر مفيد ويستخدم في تهامة فاكهة وعلاج للكثير من الأمراض وكذلك مثل الحاجب أي يوضع كتقية من الشر والشياطين وخاصة للأطفال، (وأمطير جنح ونفرْ أي) يعيد يذكرنا ويُذكر نفسه خلاص طار، (كما بنانى المدر) هنا نجد في القواميس المدر تعني المدن وبناني أي أبناء فربما يقصد أبناء المدن الذين قد لا يكون لهم وفاء بالعهد، العنبا أي بابايا وهي فاكهة تزرع في وديان تهامة الخصبة والمغني كأنه يعود لوصف الجميلة بمفردات محلية، كمحضرمي ربما يقصد العسل الحضرمي ، كما أن سيقانه وسأذهب أتارجح بالأسمر، ما أحلى المبسم، كأنه حبة خضاري نوع من أنواع التمر التهامي سوف أتمر أي أكل تمر، من يطعم منه واحدة، لو يكون شيبه وكبير بالعمر سيعود ليتعمر ثمانين سنة.
نلاحظ أن المقطع فيها مرواغات لفظية وتلاعب فأنا يمكن فهمها حالي وهي وقفة ثم يكون وصف وحديث وتصوير للطير أي الجميلة التي سرقت عقله وقلبه، يغلب التصوير وخاصة اللون الأخضر والذي يتكرر مع عدة ثمار لذيذة وسكرية وكذلك العسل وهذا النوع الغنائي لا يذهب للتعقيدات البلاغية الشعرية الفخمة والمعقدة ولا القواعدية ولا يأبه ولا يخضع لمعيار نقدي يحكم عليه ويحاسبه كبقية الألوان الشعرية اليمانية أو الشامية حيث تخضع لمعاير النقد وتشيد بالجيد وتعيب الضعيف، إذن فالتصوير المشهدي أشبه بالعفوي فتارة توجد مبالغات وتخيل يميل للفنتازيا وتارة بمفردات وصور محض محلية لكنها كذلك مثيرة للخيال والتخيل.
المقطع الرابع
كأننا في كل مقطع مع مشهد متعدد اللقطات وقد تكون اللقطة بانورمية أو هدير من الصور وقد يصور المبسم أو الساق أو العيون بلقطة قريبة.
وأ ناَّ وأ ناَّ وأ ناَّ وأ ناَّ
لكان يِذمنا أمشيب زمان
مادومنا اسال خلي واسال اميبلي وامجَمَّال
أنا بديت بعد أمجَمَّال قضمتين قعطبة والحيظان
أنا بديت بعد أمجَمَّال قالوا لحج عند السلطان
أنا بديت بعد أمجَمَّال قالوا أبها وروح ملحان
ووووأ ناَّ ووووأ ناَّ وأنا لكان يِذمنا أمشيب زمان
شابدأ على حرف اللام
وووأ ناَّ أنا شانسى الرويشان على عدد الشهور والأيام
وووأ ناَّ ووووأ ناَّ وأ ناَّ وأنا وأ ناّ
أنا شأحفظك كما البيت حفظه الرحمان
بالبيت الأول تدوية وتلاعب بكلمة أنا وكأنها بنبرة تميل للتألم كمن أصابه مصاب جسدي مؤلم أو مصاب نفسي مفجع وليست أنا هنا للمفاخرة ومدح الذات، لو كان يمهلنا الشيب بعض الزمن، أنا أسال خلي عن الجمّال وأميبلي ـ الميبلية قرية تهامية والميبلي المنحدر من هذه المنطقة وهم قبائل قح وأصيلين ، أنا بديت أي خرجت للبحث عن الجَمّال فقالوا لي هو في قعطبة وهي مديرة بالضالع جنوب اليمن و حيظان هي إحدى قرى عزلة الربع بمديرية الحيمة الخارجية التابعة لمحافظة صنعاء وربما تأتي شهرة المنطقتين بالقات الجيد وذكرها ليرمز لوجود الطير هناك أي ينتقل ليقضم أجود أنواع القات، عاد للبحث عن الجَمّال قالوا له لحج عند السلطان،ثم قالوا لو في أبهاء منطقة تهامية
فهي المدينة السعودية السياحية المشهورة ومن أبهاء روح وعاد إلى ملحان إحدى مديريات محافظة المحويت، يدوه بكلمة أنا وهو مايزال بالمشهد ويطلب الشيب أن يتوقف، سينسى الرويشان ولا نفهم أهي منطقة أم مكان.
نلاحظ تنقلات مكانية وأماكن متباعدة من تهامة وجنوب اليمن وشمال اليمن من المناطق الجبلية، هو يبحث ويسأل ليس عن الجَمّال بل طيره أي جميلته التي يصورها بكل الحلل الأنيقة، رحلة شاقة متعبة.
المقطع الأخير
وأ ناَّ وأ ناَّ وأ ناَّ وأنا وأ ناّ ووووأنا ووووأنا أنا لا لا أنا
أنا أرضو سنا يختل ما يعتل من غُله
أنا شاودي لعيني سنتين
وأمزهر شكاد خُلّهْ
أنا نفسي انعم من ماي يختلْ
أنا يا معي ذنوبو كلهْ
كما وا قحم نادى ربك وأدعى كما احنا دعيناْ
طوفنا الحرم والكعبة كما على الجبل لبيناْ
شاسقي أنا لا ياوادي يختل بينه كم من شرايج بينهْ
من نحنا زمان يبان شرقو خلينا أمحوش واويناْ
كما قام أمرعوي ذبح لنا كبشوا سود وأمشرعبي وأتكيناْ
ككل وصلة أو مقطع يدوه بكلمة أنا ويتلاعب باللفظة، أنا سأحفظ والخطاب للطير أي الجميلة وأستعان بالمقدس أي البيت الحرام وكأنه يُقسم يميناً ليطمئن الآخر ويعرف مكانته، أنا كأرض كبيرة مثل أرض يختل لا تصاب بمرض، أنا سأعطي لعيني سنتين، والزهر المشكوك، أنا أشتاق لأرض يختل، أنا مذنب، أنت يا قحم أي الطاعن بالسن نادي ربك كما فعلنا، نحن طوفنا بالبيت والأماكن المقدسة، سوف نعود لنلتقي أرض يختل، بيننا الزمن مهما شرقنا وابتعدنا وكلمة واوينا أي رددنا كلمة واو وفي تهامة نقول القط يواوي وخاصة إذا فقد رفيقته، بالأخير كأنه بضيافة مزارع رعوي والذي كرمهم بذبح خروف أسود أي وليمة مع قات شرعبي للمقيل والراحة.
بالمقطع منادة للحبيب فالمغني يناديه ويحلف له، يتمناه ويعترف بكبر سنه وذنوبه ثم يخبرنا أنه حج وطاف ولا خوف منه، تستمر التدفقات المشهدية وكما نرى التنوعات المكانية والزمانية، الكثير من المغريات ليعود الطير أي الجميلة وإلى أخر لحظة تستمر التدفقات الداخلية بين اليأس والأمل والقرب والبعد .
خاتمة
نلاحظ أن المشهدية درامية بأمتياز يبنيها الناظم المغني على الصورة والحوار فيسأل ويقول ويقال له كما أننا نستشعر الآخر المخفي أو الذي يُخفيه الشاعر المغني أحياناً هذا يثير مخيلتنا ويتبع أساليب تشويقيه ونشعر بصراعاته الذاتية ومع الآخر والذين من حوله كأنهم يصفونه بالشيبة كبير السن الذي تعداه قطار العشق لكنه يرفض حكمهم ويبالغ بوصف ما بقي فيه من نشاط وقوة جسدية، للحوار جماليته الموحية الإستحضارية والتحريضية للتخيل والتلاعبات اللفظية ويستحق هذا موضوعاً خاصاً لأهميته، تحضر الحقول والأخضر الحلو من الثمار والمدن المتباعدة في شبه الجزيرة العربية وحتى الحبشة، كثيرة جدا لحظات الغوص في الذات ونبرات الحزن لكن الحلم يظلُ متقداً.
مثل هذا النموذج ونماذج أخرى تحيلنا إلى حلمٍ طفوليٍ متوهجٍ تتمظهر العناصر الدرامية بقوة إبدعية فيها السلاسة ومتسع للتخيل لأي فنان مسرحي أو سينمائي ولعلنا نتذكر بفترة الثمانينات والتسعينات نضجت عشرات المسلسلات البدوية الأردنية خاصة ومسسلات صعيدية صورت في سيناء وحتى الكثير من الأفلام إستلهمت من التراث والموروث وحصدت لشعبية ولسنوات طويلة ولكن توقف وهجهها وربما بسبب فقداننا لبعض النجوم، لا ندري لماذا تنتج مسلسلات بميزانيات خيالية تثير اشكاليات تؤدي لمنعها بسبب أخطاء خاصة التاريخية منها ولا يعاد التوجه للتراث والموروث الشعبي الثري بمعادلات تشابه واقعنا ولا يمنعنا تناول التراث من تحركات تخيلية إبداعية وهو قابل لحمولات ثقافية وقضايا معاصرة ولا يعني أن ننقل الماضي كما كان ولا إعادة تدوير السلبي فيه.
مرفق رابط لسماع النموذج أغاني الجَمَّالة في تهامة اليمن ..مشهدية درامية وجماليات بديعة