لماذا روحك مُتعبة يا إنسان؟
بقلم: د. بسّام بلاّن
-×-×-×-×-
لا أحسب أن عصراً مضى من عمر البشرية الممتد لمئات ملايين السنين، شهد حالة التناقض والضياع التي يشهدها “بني آدم” هذا العصر. والأنكى أن أحداً لا يمكنه الجزم بما سينتهي اليه، ولمصلحة مَن سيُحسم الصراع.
الحكاية بدأت ببدء الحديث عن الذكاء الصناعي، الذي كان لفترة قريبة حلّاً جذرياً للكثير من الصعاب التي تعترض حياة الإنسان ومكمّلاً لرفاهيته وسعادته. ولأن ماكينة الأبحاث والتطوير والتحديث لا تتوقف؛ بدأت المشكلة الأكبر تطل برأسها وسنعيش في مقبلات السنين كل تفاصيلها وأبعادها.
يقول القائمون على مخابر ومراكز أبحاث وتطوير الذكاء الصناعي إن كل شيء يمكن أن يتخيله العقل البشري، سيصبح بعد سنوات وجيزة حقيقة يعيشونها؛ فليطلق الإنسان العنان لخياله وكل ما يظنه ضرباً من ضروب جموح الخيال، سيعيشه حقيقة واقعة، ويدللون على ذلك بأفلام الخيال العلمي التي راجت قبل أربعين أو خمسين عاماً، وكيف أصبحت اليوم حقائق تكمل حياة الإنسان.
المتابعون لأبحاث تكنولوجيا “الروبوتات”، يؤكدون أن الإنسان قطع أشوطاً في تصنيع سيّده الآلي وسيصبح عبداً للروبوت، حيث سيتحكم هذا الأخير بكامل تفاصيل حياته، وأن أخطر ما في هذه اللعبة أن العقل الصناعي سيطور نفسه بنفسه لاحقاً، وبالديناميات ذاتها التي يتمتع بها ليتفوق على صانعه، وبالتالي سيصبح سيد الأرض.
غالبيتنا شاهدت فيلماً سينمائياً من هذا القبيل، ورأى كيف تتحكم مخلوقات إلكترونية بالكون وتشن الحروب على الأرض وتفتك وتدمر بكل ما هو من دم وروح.
مراكز أبحاث شركة “غوغل” في مجال الذكاء الصناعي، تعمل الآن على إنتاج العقل المُتعلِم؛ ما يعني أنه في مرحلة ما يُمكن تزويد الإنسان بهذا العقل منذ طفولته، ليستغني عن 19 عاماً على الأقل، ينفقها للحصول على شهادة علمية أو على اختصاص، لأنه سيُزود منذ صغره بعقل مُتعلم جاهز، سواءٌ في الطب أو الهندسة أو الحقوق أو غيرها، وحينها لا يمكن للطفل بعمر السبع أو الثماني سنوات الاختيار، بل سيختار له المبرمجون عقله واختصاصه وفقاً لاحتياجات السوق أو المرحلة، وقد يُخلّقون، مثلاً، ملايين المقاتلين لشن الحروب من كافة الاختصاصات الحربية.
في مقابل النشاط المحموم لمراكز أبحاث الذكاء الاصطناعي، ثمة نشاط آخر لا يقل عنه دينامية عند مئات ملايين البشر، ألا وهو علم الطاقة. هذا العلم الذي بات شغلهم الشاغل، وحديثهم يتمحور دائماً حول “الشاكرات السبع” أو منافذ الطاقة إلى الجسد والروح وموازنتها بما يُحسّن عيشهم، وطاقة الأرض والشمس والهواء والعين الثالثة وكيفية تفعيلها. ومعروف أيضاً أن ممارسة هذه الطقوس على علاقة وثيقة بالروح، فضلاً عن أن الولوج لهذا العالم يحتاج إلى شبه تفرغ ودراسات معمقة وممارسة طقوس خاصة بها كـ “اليوغا”، على سبيل المثال، وهو ما لا توفره لنا متطلبات الحياة العصرية.
صحيح أن هذه العلوم ليست مُستجدة على الأرض وإنما كانت موجودة في معظم الحضارات العتيقة، ولكن الصحيح أيضاً أنها خرجت من قوقعة الجغرافيا والايديولوجيا والقوميات، وبدأت تنتشر بسرعة بعدما كسّرت ثورة الاتصالات الحواجز بين الأمم، وقرّبت بين البشر وأذنت ببداية عصر التلاقح الثقافي والفكري والإيديولوجي فيما بينهم بأعلى درجاته وحيويته وسرعته.
كل ما وصلتُ إليه في علوم الطاقة وما سمعته من المهتمين بها، يُجمعون على شيء واحد هو “البحث عن الروح وتنقيتها ونفض غبار العالم المادي المتوحش المتراكم عليها، في مسعى للتصالح مع الذات والآخر وتفعيل الحالة الإنسانية انطلاقاً من أن الروح هي جوهر الإنسان”. ويزيد هؤلاء بالشكوى مما يعانون منه من متاعب وأوجاع مُشخّصة وأخرى عصيّة على التشخيص، بسبب الواقع المادي الذي بات لا يُطاق.
انطلاقاً من ذلك ندرك البون الشاسع واحياناً التناقض بين البحثين؛ فبينما إنسان اليوم يعود أدراجه نحو روحه لسبر أعماقها وإخراج ما فيها، وإضاءة المناطق المظلمة في نفسه “اللاشعور”، يتابع صانعو عالم الغد المادي خطواتهم المتسارعة لإنتاج مخلوقات “لا روحية”، والتعايش معها والقبول بها كأمر واقع.
والأسئلة الكبرى:
– ماذا سيفعل مخلوق الدم والروح، عندما لا يكون أمامه إلاّ “روبوت”، ليتشارك معه حياته بكل تفاصيلها؟
– ماذا ستفعل البشرية بملايين الأبحاث في علم النفس والسلوك والفلسفة والجمال والانسانيات بعامة.. هل ستضعها في المتاحف وتكتفي بالقول إن أجدادنا أنفقوا ملايين السنين بحثاً في “هرطقات” لا قيمة لها ولا طائل منها؟
– كيف سيتعايش مخلوق الدم والروح، مع مخاليق صناعية مبرمجة بعلومها ومهاراتها ومعارفها، دون أي جهد منها أو دوافع أو طموحات ذاتية أو إنسانية؟
– كيف سيكون شكل مخلوق الدم والروح وهو يتلقى أوامره من “روبوت” صنّعه بيديه ويرمقه بنظرات “دونية- عنصرية”؟!
– أين سيذهب سحرُ مقولات أفلاطون وسقراط وتشي غيفارا والمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا؟
– ماذا سيفعل الإنسان الذي قد يحظى بلقب ” القديم ” بنظريات ماركس ولينين وآدم سميث.. والمئات غيرهم؟.
وقائمة الأسئلة لانهاية لها. فأي شقاء ينتظر سكان كوكب الأرض، الذي أرسل الله إليهم الأنبياء والرسل وثلاثة كتب سماوية ليتمم عليهم مكارم الأخلاق، وفجأة يجدون أنفسهم مغلولين بأرواح متعبة؟.
عصر الروبوت وصل ونعيش تداعياته العلمية والاقتصادية والثقافية والتنظيمية والقانونية. وعصر الذكاء الصناعي بات على بُعد خطوات منا؛ فماذا عن عصر الإنسان ذي الروح؟
لنتأمل ونتخيل كيفما شئتم، وكل ما سنتخيله سنعيشه واقعاً وسندور في فلكه. ومن ناحيتي أصدق كل ما تقوله الأبحاث والدراسات عن عالم المستقبل، الذي انطلق دون أي مؤشرات على تراجعه. فهل لنا أن نتخيل بعد كل ذلك حجم التناقض الذي نعيشه بين عالم يدلنا على طرق تنظيف أرواحنا لتتوازن حياتنا.. وبين عالم آخر لا يُقيم وزناً للروح، ويعمل جاهداً لإخراجها من كوكب الأرض نحو كوكب آخر؟ّ.
د. بسّام بلّان