أماكن عامة/2
مغارة ” مار تقلا “
أريد التحدث عن مغارة مارتقلا، في وسط حرج السنديان المحروس، والذي يشكل لمة كثيفة، شديدة الخضرة، بدوام كامل طيلة أيام السنة، بل الدهر، فوق قريتي: مشتى حسن وشدرا. تحت جبل أكروم.
مغارة مهيبة، نقرت الطير والثعابين والثعالى، أعشاشا وحجورا لها. وخاطت العناكب على بابها شباكها. فلا أحد يجرؤ أن يتقدم في داخلها، ولو لمتر واحد أو مترين. فهي مغارة، كما يروى، مسكونة ممسوسة محروسة.
هي مزار لكل الناس، الذين يؤمونها من القرى المجاورة، كما من القرى البعيدة، لبعد صيتها. فما زارها زائر يلتمس أو يتلمس حاجة منها، إلا وإتصلت به حاجته، قبل أن يغادر بابها. هكذا كانت قد بلغت درجة التفاؤل بها. هكذا كانت ولازالت درجة التفاؤل بها.
ترى الطريق مرسومة إليها، بأقدام الزائرين من الجهات الأربع. لأنها تقع على شرف عال من الجبل الشرقي، الذي يفتح أبوابه على الجهات الأربع: باب شدرا. وباب مشتى حسن. وباب أكروم. وباب المقيبلة وما وراءها، من قرى وادي خالد والمشيرفة والبقيعة.
يتسلق الزائرون، من أطراف المنطقة، ومن خارجها، الدروب الحلزونية الصخرية والترابية. تتلوى بين المنعرجات والمنحدرات. تسيل بالناس، مثل جداول الماء. ترد إليهم أنفاسهم، كلما كابدوا وعورة الطريق صعودا، للوصول إلى مغارة مار تقلا.
تحت أقدامها وادي القرى. والبساتين والجنائن، والنهر الذي ينبع من وادي عودين. والطواحين عليه لا تعد ولا تحصى. وقبالته الجبل الغربي، الذي يخفي وراءه، كروم العوينات ورماح ومنجز والنهر الكبير. وكذلك كروم عندقت وعيدمون.
في رأس الجبل طريق القمم. مرسومة بالأقدام، إلى بيت جعفر. وأخرى بعيدة معبدة، بين المونسة، آخر قرية، من قرى وادي خالد لجهة الشمال، وأعظم قمة في جبل عروبة. تحمل الناس إلى مغارة مار تقلا، مشاة. فلا طريق معبدة تصل إليها. إلا ما إتفق، أن تكون على مبعدة ليست قليلة منها.
وأمام باب المغارة، درب للنساك والزاهدين . هو ما يعرف بدرب الرجاء. بطول كيلومتر أو أكثر. أو أقل بقليل. يتمدد من الشمال إلى الجنوب. وهو المدخل الوحيد للوصول إلى باب المغارة.
تستظل المغارة بأشجار السنديان. وكذلك محيطها، والدرب الممتدة أمامها. أليست هي أنيسة حرج السنديان، منذ قديم الزمان. فمن يجرؤ على مس غصن منها، إلا وهو ينتظر أن تنهشه أفعى، أوتقاصصه الرتيلاء. أو تقع عليه صخرة، مصخورها العظام التي تحرسها. وربما إقتص منه الطير الجارح، الذي إعتاد أن يحط على أعلى طرد من طرود، أعلى شجرة.
مغارة مار تقلا، كانت مقصد الزائرين. تراهم في الدروب الوعرة إليها، زرافات ووحدانا. كل ينشد حاجته التي أضاعها. كل ينشد غايته، التي ضلها. كل ينشد الراحة والدعة، والطمأنينة الضائعة.
سمعت بمغارة مار تقلا، بذلك المزار العظيم، من الأهل، ومن مجتمع القرية. كانوا يتحدثون عنها، والنفوس والقلوب كما العيون لهفى إليها. فأحفزتني الأحاديث الندية، بعطر المغارة، أن أخرج إليها، وأنا في عز الحاجة، لطلب السكينة والهدوء و الراحة.
تذكرت أني وقفت في صغري، على بابها. كنت ألهو هناك، وأنسام الصيف تشغلني عن زائريها. وقد سرحت مني بقرتي السوداء، التي كنت أرعاها. إنشغلت عنها بإكتشاف معنى المغارة. صرت لهولي، أبحث عن البقرة السوداء الضائعة. فعدت إلى البيت أشكو خيبتي. فوجدت بقرتي قد سبقتني إليه. فما أضاعتها المغارة.
تذكرت ذلك كله دفعة واحدة. عاد إلي شريط ذكريات الطفولة، بصورتها الحية الناضجة الناضرة. تلهفت للصعود إليها، أطلب فرصة الهدوء. وفرصة مراجعة الدروس. وفرصة الظفر بإمتحانات الشهادة. لشهر كنت أتسلق إليها، قبل موعد الإمتحانات المبكرة في دار المعلمين. كنت في السنة الثانية. كانت الدروس فوق رأسي. فهي أصعب سنوات الدراسة. طلبت مار تقلا. طلبت مساعدة المغارة.كنت أخرج إليها كل صباح. أحمل معي زوادة البيت، وقربة الماء. وكتب الدراسة. أمضي نهاري كله في متابعة دروسي، على درب المغارة. أمام بابها. وتحت أشجار السنديان التي تظللها. وأرى بأم عيني سبل الوافدين وأكف الزائرين، تتمسح بأوراقها. وجباههم تتعفر بترابها. ولا يعودون عنها، إلا وعلى ثيابهم أثرا من آثارها.
أذكر حتى اليوم، كيف كنت أروح وأجيء أمامها، وبين يدي كتاب العلوم. مرة، سقطت بين دفتيه حية، من أحد الغصون. فأسقط من يدي. سقط الكتاب من يدي. غير أن الحيةالصغيرة، راحت لتندس بين الحشائش. وعادت إلى جحرها في المغارة.
حقا مغارة مار تقلا، علامة فارقة في جبين الجبل الشرقي، فوق الوادي المهيب، بالكروم والجنائن والبساتين. لا تزال صورتها الحية تحفر في الذاكرة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين