الرحلة الدويهيّة إلى عرش الوطن
( قراءة للكاتب د. جوزاف الجميّل في قصيدة للأديب الدكتور جميل أديب الدويهي )
×-×-×-×-×-
ليت ارتحالي
على ضفّة الوقت لي مقعدُ
على مركب الريحِ لي موعدُ…
حزين كما طائرٌ لا يُغنيّ
وما كان لي في انكساري يدُ…
وبيتي شتاءٌ طويلٌ طويلٌ
فليت ارتحالي له مقصدُ…
وجسمي كما قصْبةٌ في هواءٍ
ولي صاحبٌ… ظلُّه الأوحدُ…
فهل يكبر الطفل بين المواني؟
وهل لي ثيابٌ إذا أبرُد؟
أخافُ إذا يهرب الأمس منّي
ولا يطرق الباب عندي غد.
الشاعر الدكتور جميل الدويهي
ُ
ليت ارتحالي عنوان قصيدة الاأديب الدگتور جميل ميلاد الدويهي، بل بيت القصيد.
عنوان يشي بتمنٍٍّ لن يتحقق. وكيف تتحقق التمنيات مع ذلگ العدو الأعمى الذي يسرق الفرح من القلوب، والهناءة من الصدور؟
ليت ارتحالي ويتوقف اللسان عن الكلام، واليد عن الكتابة. إنها حشرجة المنازع، في لحظاته الأخيرة.
والعجز عن إكمال العنوان يتحوّل إلى عجز عن إكمال القصيدة. فتأتي من ستة أبيات. ورقم ستة رقم ناقص يحتاج إلى اكتمال. ولا اكتمال إلا بالموت.
وهكذا حياة الإنسان كمالها الرقاد الأخير.
في ستة أيام اكتمل خلق العالم. وفي اليوم السابع استراح الرب.
د. جميل الدويهي
في ستة أبيات نسج الشاعر الدويهي خيوط أبيات إبداعه، مصوّرا حياة الإنسان، في رحلة عبوره بحر هذا العالم، في سفينته السندبادية، بل في رحلته الأوليسية، عائداً إلى زوجته بينلوبي. وبينلوبي الدويهي محطته، على الضفة الأخرى للحياة، حيث الراحة المنشودة.
مسافر هو، إلى أرضه الجديدة، وسمائه الجديدة، قاهرا الوقت والمحيط.
مركبه الريح يخترق الأمواج العاتية، نحو موعده القريب البعيد.
إنه الموعد مع رب الحياة والموت، بحثاً عن مقعده المرتقب، في عالم اللانهاية.
حزن الشاعر، وهو يترقب العبور شبيه بحزن السيد المسيح، في بستان الزيتون. حزين حتى الموت، يقول السيد.
وحزن الجميل عميق كحزن طائر وعى رحيله، فعجز عن الرقص والغناء.
الطائر العاجز عن الغناء هو طائر الهامة. طائر يبحث عن الثأر من الذين حاولوا رميه في دائرة النسيان.
بين الأمنيات والواقع خيط رفيع هو لذة البحث عن المجهول إرضاء للذات. والمجهول هو الموت، في پعده الفلسفيّ الميتافيزيقيّ.
للشاعر الدويهي ارتحالان لا رحلة واحدة. ارتحالي مكانيّ هو الهجرة التي تحاكي الموت. وارتحال نفسيّ إلى عالم اللذة ، لذة النص التي تحدّث عنها رولان بارت.
بين اللذة النصية والموت الرحيل لقاء وارتقاء.
إن كان اللقاء متعذراً ، فليكن الرحيل ارتقاء إلى عالم النور الأفلاطوني، حيث تمّحى ظلال الرحلتين المادية والنفسية.
في قصيدة الشاعر الدويهي، كما في ذاته، قلق من الموت مرحّب به ومرفوض في آن. إنه ينتظر الموت ويتمناه. ولكنه يرفض الموت المجاني الذي بلا هدف أو مقصد.
الموت قدر لا يستطيع الشاعر الهرب منه. ولكنه قادر أن يحوّله إلى خلود. خلود لا علاقة له بعشبة جلجامش، بل بالإبداع الأدبيّ القادر على تحويل الصحراء إلى واحة. الإبداع القادر على مواجهة الموت/ الارتجال والتغلّب عليه.
ويسأل القارئ عن سر التشاؤم الذي أصاب الشاعر الدويهي. ولمٓ يشعر بالوحدة، لا صاحب له إلا ظله. وماذا يمثل الظلّ في ثنائيّة النور الظلال؟
تعيدنا القصيدة إلى قصيدة الشاعر اللبناني فوزي المعلوف، وقصة الصراع بين روحه والجسد، حيث يقول:
بين روحي وبين جسمي الأسيرِ
كان بُعدٌّ ذقتُ مُرّه
أنا في الأرض وهي فوق الأثير
أنا عبد وهي حُرّه
وقد تمثّلت ثنائيّة الحرية والعبودية في قصيدة الدويهي بموكب الريح والموعد. إن كانت الريح تعني الحرية والانطلاق، إلى عالم الروح، فالموعد يعكس اللقاء في عالم المُثل الأفلاطونيّ حيث المعرفة الكلّيّة.
تطرح القصيدة في بعدها الثالث قضية فلسفية بامتياز. إنها قضية العلاقة بين الجسد والروح. الجسد أشبه بقصبة، والروح ظلّ وفراغ. وما بين ألقصبة والظل لقاء إلى حين. بين الضعف والتردد والهشاشة(القصبة), وقوة الروح التي تخترق الآفاق، إلى عالم الحرية، صراع داخل الشاعر، وفي عمق كينونته الوجودية.
القصبة تلويها الريح. أما الروح فتطير معها مرفرفة فوق الماء والسماء.
أمر آخر يثير النقاش: ما العلاقة الجدلية بين الطفل والموانئ؟
الموانئ محطة انتظار ووصول. إنها الجمود الذي يصيب الجسد،ويقعده عن الانطلاق. أما الإبحار، في لحج البحار والمحيطات ففيه الحياة والنماء. وهذا ما أوضحه الشاعر ابن الورديّة في لاميته إذ يقول:
فبمكث الماء يبقى آسنا
ويرى البدر به البدر اكتمل
فالحركة، أو الإبحار، دليل كمال، أما الجمود والخنوع فنقص واعتلال.
البقاء في الميناء رمز للموت، يثير قلق الشاعر الدويهيّ. وهو بهذا يخالف قول الشاعر صلاح لبكي الذي رحّب بالموت، حيث يقول:
يا حسن ذاك الموعد
يمحو من العمر غدي
فما الذي يخيف الشاعر من الموت؟
لا يخاف الشاعر من الموت، ولكنه يخشى انتهاء زمن الهناء. وهذا ما عبّر عنه الشاعر الفرنسي لامرتين، إذ يقول في قصيدته البحيرة:
خُذِ الشقـيَّ وخـذْ مَعْـه تعاستَـهُ
وخلّنـا فهنـاءُ الـحـبِّ يكفيـنـا
أما الطفل فهو رمز للولادة الجديدة، في المهجر. ولادة أعطت ثمارها في حركة نهضوية فكرية مميزة. إنه طفل الإبداع اللبنانيّ الرائد، على ضفة الحنين إلى الأم الوطن.
الخروج من الوطن عري للشاعر. فهل تستطيع الغربة، في مجدها الجديد، أن تعيد للشاعر دفء الوطن والقرية؟
انتهاء عهد الهناء هو غربة الشاعر، في أرضه الجديدة، كأنّه آدم المنفيّ من عدمه التليد.
جميل ميلاد الدويهي، أيها الطائر المغرّد خلف البحار، عميقة محبّتك للوطن، رائع حنينك إلى فردوس الأرز الإهدني. وأروع من ذلك كلّه عبورك الدائم محيطات الحنين إلى مدينتك الفاضلة، حيث الذكريات الهانئة وعرش الإنسان الإله. وكن على يقين أن الوطن الراسخ في قلبك والعقل سيبقى ملاذك والرجاء بانتظار عودتك المظفّرة.
د. جوزاف ياغي الجميل
الكاتب الدكتور جوزاف الجميّل