نافذة الحنين
بقلم : عايدة قزحيا
-×-×-×-×-
ثلاثون عامًا وربّما أربعون، ونحن نلهث وراء بيت أحلامنا وتحقيق طموحاتنا، نسعى بأرواحنا، وبحيويّة دمائنا لنبنيَ ذلك العشّ الحجريّ المطلّ بروعته، الجميل بغرفه، الأنيق بمفروشاته، والّذي نحنّط فيه أولادنا في غرفة واحدة صغيرة، تُسمّى غرفة الجلوس ونسجنهم فيها ونحرمهم من متعة اللّعب ولذّة الحركة حرصًا على عدم إتلاف مفروشات. صالونه، ونأكل في المطبخ أو في غرفة الجلوس كي تبقى طاولة السّفرة على فخامتها تنتظر الضّيوف، وقد علاها شمعدان الزّينة، أو زهرية الورد الاصطناعيّ، أو بعض التّحف..
ويكبر الأولاد في معمعة الحياة اليوميّة وهم يرَون في بيوت أهلهم شركاء وهميّين يتعايشون معهم في البال، أشباحًا من خيال، وقد مُنعت أصابعُهم من لمس مقاعدهم في الغرف المخصّصة لهم، حيث يحفظ الأولاد عناوين هٰذه الممنوعات لتصبح وكأنّها أسماء شوارع مهجورة وغير نافذة، خارج حدود البلدة،
ونحن لا وقت لدينا لاستقبال أقرب الأقرباء لنا، فالوقت قبل الظّهر للعمل، وبعد الظّهر لتدريس الأولاد وفي اللّيل تحضير لليوم التّالي.
وتتوالى الأيّام، فتُثقل هِمَمَنا، وتُتعِبُ أجسادَنا، وندركُ بأنّه آن لنا أنْ نرتاحَ بعد عناء وشقاء الحياة، وعلينا أنْ نعيش بهدوء مع أولادنا، بعد أنْ أنهَوا تعليمهم، وأتمَمنا واجباتنا تجاههم.
وفجأة وعلى غفلة من أعمارنا ودون انتباه، تداهمنا القافلة وتُطلق صفّارتها معلنة وصولها لتقلّ أبناءنا إلى مدرسة الحياة.
ويصدمنا الواقع!
ما أمرّ تلك اللّحظات!
ها هي أمّ عدنان تقف خلف النّافذة المطلّة على الطّريق، تلك الّتي كانت تقف خلفها تلقي نظرة الصّباح على ابنها، مهجة قلبها، وهو يصعد إلى حافلة مدرسته
وقد غطّت ظهره الصّغير حقيبته الكبيرة،
بينما هو يدير ظهره مع كلّ خطوة وينظر إليها وهو يلوّح ببراعم أنامل يديه، فتسمعه يقول لها: باي ماما.. باي ماما..
أمّا الآن فهو يحمل حقيبة سفره، وقد جمع فيها من ذلك البيت العملاق، القليل من الثّياب، والكثير من الأشواق، وآلة الحلاقة وبعض الملابس الدّاخليّة،
وكانت والدته تراقبه وهو يطوي ثيابه وينضّدها داخل الحقيبة، فتتراءى لها ثيابه الصّغيرة الملوّنة ومريلة طعامه، وصحنه المخصّص له الّذي يحتفظ بحرارة الطّعام ريثما يُنهي وجبته، وترى ألعابه المحبّبة لديه الّتي كانت توضّبها له حين كانت تصحب أولادها لزيارة أهلها في الجبل في عطلة الصّيف، فتكتم آهةً ودمعة، وتُبدي ابتسامة مزيّفة صفراء، فهي لا تريد لابنها أنْ يحمل معه حسرتها ونشيج فؤادها.
فشتّان ما بين المحفظتين الحقيبتين!
هذه المرّة لن تكون مع ولدها، ولن تمسك بيده على سلالم البناية، ولن يحمل أبوه حقيبته، ولن تقفل أمان باب السّيارة خشية أنْ يفتحه…
عندما ولدته لم تشعر بآلام الولادة.. ولم يؤلمها قطع حبل الصّرّة،
أمّا الآن فقد أوجعها وأحسّت به، وبمرارة الانفصال الّذي
لا يُحتمل.
الآن فقط شعرت بآلام قطع نياط قلبها عن ولدها، ألم لا مثيل له.
رفع يده مودّعًا لا ليعود ظهرًا إلى البيت تسبقه أقدامه الصّغيرة الّتي تكاد تتعثّر من فرط سرعتها ليعانقها فتحضنه، بل لأجل غير مسمّى..
حملته سيّارة الأجرة إلى المطار، ليمتطي صهوة المجهول، ويبدأ رحلة كفاحه،
ويعيد التّاريخ نفسه،
كما حملت معها أعوامًا من الانتظار، كي ترى ابنها كبيرًا..حملت معها قطعة من جسدها وقلبها وروحها، ولم يبقَ لها غير أنفاس في هيكل عظميّ لم يعد يصلح إلّا لتجارب الأطباء والمختبرات.
ابتعدَت عن النّافذة وراحت تتجوّل في أرجاء منزلها الواسع الّذي ضاق به صدرها، وكادت جدرانه تطبق على خلجات قلبها.
لم يعد لأيّ شيء قيمة في نظرها، فإنّ بيتها الّذي كان حلم آمالها صار سجن آلامها، مرّت بالصّالون البتول الّذي لم يدخله زائر، ثمّ دخلت غرفة نومه.. لم تشأ أنْ تفتح النّافذة لتهوئتها كالعادة، فهي تريد أنْ تحتفظ بعطره فيها.
تسلّلت إلى المطبخ لتبدأ بتحضير طعام الغداء، فتحت الثّلّاجة، ثمّ أغلقتها على عجل..لقد عجزت عن الاختيار!
كيف يمكنها أنْ تطهو طعامًا يحبّه ابنها، ولا يأكل منه؟!
غادرت المطبخ على الفور ، فهي لن تقوى على إحضار غداء هذا اليوم.
الكاتبة عايدة قزحيا
تصوير الواقع الحياتي ، بمسلسله الزمني ، فيه من تفاصيل الحياة كما في روايات إميل زولا، حقائق دقيقة عن حياة الإنسان، بالتفاصيل والجزئيات الجزئية المثيرة !
والأجمل، السرد الوافي للحركة العاطفية داخل النفس الإنسانية، حيث كانت الأقصوصة، واضحة المفهوم، ناصعة الدليل، وسلسة الصياغة!
الجمع ما بين الحدث خارج الإنسان، والحدث داخل الإنسان، أو بالأحرى الجمع بين الحدثين، ونقلهما الى الوجدان والذهن، حيث تخمّرا ، والمبدعة القصّاصة أخرجتهما إبداعا وجمالا سردا وقصا ومعنى !
أزادك الله طاقة على الإنتاج والإبداع!
المسيح قام حقا قام !