“بدي ختيّر معك”
بقلم: د. بسّام بلاّن
-×-×-×-×-
“بدي ختيّر معك”، عبارة سمعتها منذ أيام وأنا جالس في المقهى، قالتها صبيّة أربعينية لجليسها على الطاولة بما يشبه الهمس، واستقرت في أذني.
أقسم بأنني لم أتقصد استراق السمع لما يدور من حديث بينهما.. وأقسم أيضاً بأن هذه العبارة: “الأُمنية-الطلب” جعلتني في أقصى درجات الفضول لأعرف في أي سياق ومناسبة جاءت، ولماذا وكيف.. ودوافعها الحقيقية، ولكني لم أُفلح.
في الحقيقة، أمضيت وقتاً طويلاً وأنا أفكر في مضامين هذه العبارة، وأحللها وأسقطها هنا وهناك بعد أن فتحت عليّ سيلاً من التساؤلات، خاصة أننا نحن البشر، غالباً، لم نعتد التفكير بهذه الطريقة وأن “الختيّرة” إن عشانا تكون مرحلة ساقطة من حساباتنا باستثناء السعي ما أمكن لتأمين أنفسنا مادياً علّنا نفلح في حفظ كرامة “الختيرة” وألاّ نكون عبئاً أو عالة على أحد، بمن فيهم “فلذات الأكباد”، فهم أيضاً لهم حياتهم ومسؤولياتهم وليس من العدل أن نُلقي بأثقالنا عليهم.
ولكن هل هذا كل شيء؟ بالقطع لا؛ فالقضية، حسب فهمي على الأقل، أعمق بكثير وارتدادات أسئلتها كثيرة ومتشعبة وربما أوسع مما نتخيل.
عموماً، عند التقدم بالعمر يصبح الانسان ضيفاً على وجه الأرض بمن فيها وما عليها بانتظار اسدال الستارة على مسرح حياته، وكأن دورة الحياة تعود به من جديد، فتصبح أشبه بالحالة التي جاء بها الى الدنيا.. أيامه حافلة بالكثير من الفراغ والانتظار والزهد والهدوء والملل وأحياناً عدم الفهم، وفيها أيضاً أكداس من الذكريات والصور وتجارب تفاصيل المحطات التي قطعها قطاره قبل أن يصل به الى لحظته الراهنة.
بالضرورة ستتغير رؤاه وأفكاره وسيرى ما حوله بعين أخرى وبتفاصيل مختلفة.. سيفرح بصمت ويتألم بصمت ويغضب بصمت ويعاتب بصمت.. الصمت سيكون عالمه وصديقه.. وإن كان محظوظاً سيبقى فيه بعض من عافية وقوة جسد تساعدانه على قضاء حاجاته بحدودها الدنيا.
ولكن هل هذا كل شيء؟
لا.. فهناك المزيد؛ فنحن مضطرون للغوص في الحاجات والاحتياجات النفسية، علّها توصلنا الى معطيات للحكم على هذه الفترة ان كنّا نعيشها فعلاً أم هي مرحلة انتظار بلا طعم ولا رائحة ولا لون.
أعرف أن الكثيرين سيعترضون على كلامي وقد يتهمونني بالسلبية وربما يقترحون عليّ مراجعة طبيب نفساني.. وسيسألون عن الأبناء والأحفاد وربما أبناء الأحفاد. وأعرف أيضاً أن هناك منْ سيواجهني بنظريات معلبة وجاهزة من مثل: كما تزرع تحصد وكما تدين تُدان وراجع اخطاءك وأنت المخطئ، وهذه سنة الحياة.. واعمل كذا… إلخ.
لا شك بأن في كلام كل الأطراف السابقة جزء من الحقيقة، ولكن بالقطع ليس كلها وليس كذلك معظمها.
فـ “الختيرة” مرحلة هدوء، ومن يدخل عقده السابع يحتاج أكثر ما يحتاج اليه الحب والتفهم.. يحتاج مَنْ يشاركه بأمان ويتشارك معه بثقة وطمأنينة.
كلنا سمعنا من وعن أشخاص كبار في السن يقضون هذه الفترة بحسرة وندم على أشياء قاموا بها وعلى أشياء أخرى لم يقوموا بها.. وشريكهم في “الختيرة” ينكأ جروحهم “على الطالعة والنازلة”، ويكرّس فيهم عقدة الندم ومشاعر اللوم. وسمعنا أيضاً عن كثيرين يعزز فيهم الشريك الأمل والأمان والراحة.. ولمن يتحدث عن الأبناء والأحفاد، ليعلم أن هؤلاء ليسوا شركاء وليسوا أساساً في البناء بقدر ما هم ديكور أو اكسسوار له لا أكثر. الشريك المادي والمعنوي هو أساس بناء مرحلة “الختيرة” وعمودها الفقري، به ينال حلو الأيام ومعه المر يصبح حلواً، أو تخف مرارته وتقل لزوجتها في الفم.
والشريك المادي هو مَنْ اختبرته واختبرك ولامس عمقك.. أما الشريك المعنوي هو الهدف الذي ستظل دائم السعي اليه ليعطيك الأمل ويمنحك الشعور بأن ثمة شيئاً ينتظرك غداً لتكمل به ما بدأته اليوم أو في الأمس، أو في الشهر أو في العام المنصرم.
أعتقد أن المصابين بضبابية الرؤية يرددون على الدوام: عندما أنجز مهمتي تجاه كذا أو كذا لن أعود مكترثاً بشيء. ويقيناً الصواب هو التخطيط بعقلانية ووعي لمرحلة “الختيرة”.. والبدء ببناء سور متين حولها يصون حَرَمَها.
كل شيء من حولنا تغير بكليته أو بمجمله، وما كنّا نظنه بديهياً قبل عقد من الزمن، لم يعد اليوم كذلك، لذا يجب أن نمتلك من الحصافة وقوة الإرادة ما يجعلنا نغير ما فينا تغييراً شاملاً ونراجعه بشافية وحكمة، وغير ذلك سنسقط بعنف نفسياً وروحياً ومعنوياً.. والقافلة إن انطلقت لا تنتظر أحداً.
وليكن السؤال الذي يجب تكراره على أنفسنا كل يوم:
“مع مين لازم ختيّر”؟
الكاتب د. بسّام بلّان
اعجبتني الومضة التي اتت بك لهذا المقال الجميل من حيث المضمون والسرد الشيق تلك محطة لا بد من الوقوف بها لالتقاط الانفاس اذا بقيى منها شيء وانا معك بانه لابد من التخطيط لها لانها بالنسبة لنا كشرقين هى الفترة التي يمكن ان نتمتع بها ونعيشها لانفسنا لا لغيرنا اتمنى ان بلغ واياك تلك المرحلة بكل هدوء وطمئنينة
لك مودتي صديقي