” السبت الثقافي ” في ,ميزان الزمان ” مع الكاتبة والاعلامية دلال قنديل :
“دليل الى الحياة الكريمة”
الرواقية بمفهوم العصر.
-×-×-×
كتبت دلال قنديل :
الرواقيون يثَمّنون حريتهم، ولذلك لا يفعلون شيئاً من شأنه أن يمنح الآخرين السلطة عليهم.
” الحرية” كقيمة مجتمعية تسمو على ما عداها ،لو أتيحت الحرية الفكرية، في الاعتناق او الانعتاق ، لكم سهلت سبل التطور.
نعيش في عالم يتدحرج نحو التشظي والانقسام ، في لجج الصراع بين حدي المطلق: الرفض الكامل او القبول الكلي.
الحرية تمرسٌ قبل ان تكون نظرية ، لم يهتم المسرحي والفيلسوف سينيكا بالميتافيزيقا، وفصلها عن ميدان الأخلاق، فاتجه إلى الناحية العملية، أي الحكمة العملية للحياة.وتجلت معه الرواقية بمعناها المعاش التي تتم إستعادتها بدراسات وكتب لافتة في السنوات الاخيرة. أسس المدرسة الرواقية
زينو القبرصي نحو سنة ٣٤٢ق.م في مدينة سيتيوم التابعة آنذاك لليونان.وأدخل أتباعه على مناهجه تجارب وتوضيحات.
قلق الخوف من الفشل يحجم التجارب، يقيد حريتنا برابط داخلي.هذه واحدة من التجليات التي يقدمها كتاب يبحث في أعماق الفلسفة الرواقية.
” حين أقوم بالأشياء التي تسببت لي بمشقة بدنية وعقلية، أنظر الى نفسي- او الى جزء مني- بوصفي خصماً في نوع من لعبة.هذا الخصم – ” ذاتي الاخرى”إذا جاز التعبير…إن ممارسة اللعبة ضد ذاتي الاخرى تساعدني أيضاًعلى بناء الشخصية.” يرد هذا المقطع من كتاب “دليل الى الحياة الكريمة”مرفقة بإستنتاج الكاتب “وليم إرفين” بأن التغلب على الخوف والنجاح بالتمرس على الحرمان من لذات متنوعة وفق ابيكتيتوس أو تحمل ما يصعب تحمله بنجاح ونرضى بأنفسنا وفق طريقة سينيكا.
غلاف كتاب وليم إرفين
يسترسل الكاتب في تفنيد تاريخ المدرسة الرواقية ليترك النقاش مفتوحاً امام التجارب “قد ارتكب غلطة من خلال تطبيق الرواقية، من المحتمل ايضاً ان أرتكب غلطة اذا ما رفضت تطبيقها.اعتقد ان اكبر غلطة التي يقترفها عددٌ غفير من البشر هي أنهم لا يملكون فلسفة حياة على الاطلاق.”
وفقاً لماركوس من الممكن من خلال تطبيق الرواقية ان تكتسب حياة جديدة تماماً.
يعيدنا الكاتب لمزيد من التعمق الى رسائل سينيكا الى لوكليوس والى كتبه عن السعادة وطمأنينة البال وعن قصر الحياة كمراجع لا بد من الاسترشاد بها.
الطمأنينة مصدر سعادتنا، لكن كيف السبيل للتغلب على القلق؟.
يتدرج الكتاب في سرد تجارب حياتية لفلاسفة رواقيين او على تماس مع الرواقية كشوبنهاور ، دون أن يتجاوز الربط الزمني بين ما يواجهنا من تطور أدوات العيش واغراءات التكنولوجيا والبذخ والرفاهية من جهة، وسط تنامي نوازع القلق في عصرنا من جهة ثانية.
التأمل يُحفز تجاوز الرأي العام وتحقيق الذات المستقلة” فقط المرأة التي تعرف فعلاً من تكون – امراة تشعر بالسعادة والثقة بنفسها- تظهر هذا النوع من اللامبالاة بالرأي العام .”
حياة شاقة عاشها الفيلسوف سينيكا مؤسس مذهب الرواقية بعد استبدال عقوبة إعدامه بالنفي من البلاط الامبراطوري ومصادرة املاكه لإتهامه بعلاقة جنسية مع إبنة اخت كلاوديوس جوليا ليفيلا.
تلك العقوبة خلقت منه متنسكاً، التأمل فتح له دروب الفلسفة التي مازالت مذهباً للحياة ينهل منه ملايين البشر حول العالم.
في العام ٤٩ ميلادي تزوجت أغرينيا من كلاوديوس وتكلمت معه بشأن استدعاء سينيكا من منفاه ليعلم ابنها نيرون، الذي كان في سن الثانية عشرة.
عاد سينيكا الى روما من منفاه في كورسيكا.ما هي الا سنوات من الرفاهية كأقرب المستشارين لنيرون حتى اصدر الأخير امراً بقتله في العام ٦٥ ميلادي بعدما اقتنع بوشايات تحدثت عن مؤامرة تحاك ضد حكمه.
حين بكى اصدقاء سينيكا الذين كانوا حاضرين اعدامه أنبّهم وسأل، ماذا جرى لرواقيتهم؟.
الثروة والشهرة ،الشيخوخة افكار تستدرج وعينا الى إدراك الفلسفة الرواقية عبر تجارب تعامل المدرسة الرواقية معها . يتجلى التعايش مع فكرة الموت بالتحرر منها كهاجس.
” تصرف سينيكا بطريقة جلبت له عقوبة الموت بينما كان في مقدوره ان يتجنب القيام بذلك”.
” دليل الى الحياة الكريمة” الكتاب الصادر عن دار التنوير، ترجمة علي عبد الامير صالح يحمل عنواناً قد يبدو ترويجياً، ككتب تحسين فرص العيش او البحث عن وظيفة او عن ثنائيات مستقرة او حتى عن أساليب لجمع ثروة وتعزيز المكانة الاجتماعية.
غير أن العنوان الفرعي ” الفن القديم للسعادة الرواقية” يمنحه اتجاهاً آخر ، يشدنا الى البحث الفلسفي .
يمهدالكاتب وليم ارفين
wiliam Erven
لشرح الفلسفة الرواقية على مدى ٣١٨ صفحة بسؤال ملهم، بسيط ومعقد في آن :” ماذا نريد من الحياة؟.ما هوهدفنا الكبير في العيش: إنه الهدف الذي نكون غير راغبين في التضحية به كي ننال الاهداف الاخرى.”
الغلاف الأخير للكتاب الصادر عن دار التنوير
أربعة اقسام متناسقة، موزعة على ٢١ فصلاً يقارب الكاتب من خلالها تطور الفلسفة الرواقية مستنداً بشكل رئيسي الى حياة سينيكا بمنهجية اكاديمية لا تحيد كثيراً عن اعتماد المقاربة لمدارس فلسفية سبقت او عاصرت او تبعت المذهب الرواقي.
ينفض الكاتب تهمة العبثية عن الرواقيين ، ينزع بهم نحو التأمل للتعمق والاكتشاف دون رفض التنعم برفاهية متاحة او بالملذات.
القسم الاول يتناول ولادة الفلسفة.الثاني والثالث يعرض اساليب تطبيقية لاعتماد الرواقية منهجاً حياتياً.وفي القسم الرابع يسرد الرؤى المكتسبة من تطبيق الرواقية .
كيف نُشبع رغباتنا غير المتحققة؟ كيف نصل الى تجاوز الشعور باللا رضى؟.
” إن أحد مفاتيح السعادة هو إدراك عملية التأقلم: نحن بحاجة الى اتخاذ خطوات حتى نمنع انفسنا من ان نستخف بالأشياء التي بذلنا مجهوداً كبيراً جداً كي نحصل عليها.”
الرواقيون أبرز من اشار الى مصدرين لتعاسة البشر ، جشعنا وميلنا الى ان نقلق بشأن اشياء خارج نطاق سيطرتنا قد نتغلب عليهما بتبسيط العيش والاستغناء بالابتعاد عن السعي للتملك ، عن الاستهلاك الجامح والخضوع للترويج.
ركيزتان تطرحان للتعامل مع القلق : تقدير الاشياء التي نملكها في حياتنا عالياً ، بعيداً عن التعلق، تصنيف الاولوية في حياتنا للاشياء التي لنا سيطرة تامة عليها.
لا تقدم الرواقية حلولاً سحرية لسعادة البشرية لكنها قد تصلح لتخفيف معاناتهم، تكتفي بأن تسهل عليهم تقبلها.
” علينا أن نكون مؤمنين بالقضاء والقدر في ما يتصل بالعالم الخارجي.علينا ان ندرك أن ما جرى لنا في الماضي وما يحدث في هذه اللحظة هي وقائع خارج نطاق سيطرتنا ، لذا من السخافة أن ننزعج في ما يتعلق بهذه الاشياء.”
التخيل السلبي للفقدان اولى وسائل التدرج بإعتماد الرواقية وينصح الكاتب أن تكون سرية لاكتساب الشعور بالقناعة.
في زمن إهانة الانسانية على سطح كوكب متقهقر، يعيش أسوأ ما قد يجمح الخيال اليه، نستعين بإستخدام روح الفكاهة عند الرواقيين الذين عرفوا بتقبل الاهانة بالضحك والسخرية.”يصف سينيكا رجلاً إسمه fatinoss عنقه مغطى بأكياس دهنية وقدماه مريضتان يحكي النكات عن تشوهاته كثيراً بحيث ان الآخرين لم يكن لديهم شيء يضيفونه.”
يردد الكاتب مقولة ماركوس “يقولون إن الحياة شبيهة بالمصارعة اكثر منها بالرقص” يبقى أن نسأل أنفسنا هل سنكون بين المصفقين لمن هم على الحلبة ، أم نروض ذواتنا على البحث الذاتي عن سعادة لا تُفسد بواسطة الحوادث الخارجية…وهذا ما يشرع ابواباً لا تحصى.
دلال قنديل
ايطاليا
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل