الكناري
بقلم: د. بسـّام بلاّن
-×-×-×-
منذ طفولتي مغرم بإقتناء طائر الكناري. أحب شكله الأنيق جداً، وتغريده الشجي، وأشعر أنه أكثر الطيور براءة على الإطلاق.
كنت أتحاشى تربيته وأنا أسكن شقة مغلقة لأسباب كثيرة؛ منها الصحي على سبيل المثال. وعندما سمح لي المنزل بذلك جئت به بلا أي تردد.
أجلس أراقب حركاته وتصرفاته لساعة من الزمن وربما أكثر، دون ملل.. يضحكني في بعض الأحيان، ويبهجني في أحيان أخرى بما يتصرف ويفعل، ويريح نفسيتي في كل الأحيان.
بحسب خبراء الطيور، ومنهم صديقي الأديب والشاعر الجزائري الراحل عياش يحياوي، الكناري من الطيور المعتدة والمعجبة جداً بنفسها، لدرجة النرجسية.. كما أنه من الطيور التي لاتعيش إلاّ في “قفص نظيف” وإلاّ قد تموت.
…….
أثناء وقوفي أمام قفص الكناري، المُثبت على جدار الحديقة، أتابع حركاته وتحركاته، ألوم نفسي أحياناً لأنني أسجنه في قفص، بينما خُلق الطير أصلاً ليظل سابحاً في الفضاء يتنعم بالحرية، وأحياناً أقرر لثوانٍ أن أفتح له الباب كي يغادر.. ولكنني أتراجع عن قراري فوراً عندما أتذكر أنه ولد في القفص، وبالتالي خروجه منه يحمل مخاطر جمّة عليه، قد تصل الى حد وقوعه فريسة سهلة، وبالتالي موته. لاشك بأن مثل هذا القرار يحتاج الى تدريب مسبق له، وعلى يد خبراء، وانا لست منهم.
…….
لا أكتفي بإطعام الكناري الحبوب المخصصة له، ولكن أحياناً أضع له قطعة تفاح أثبتها من خارج القفص نحو الداخل.. فيهجم عليها بسرعة كبيرة ويبدأ بتنظيف منقاره تمهيداً لإلتهامها. أرى بأم العين مدى سعادته وهو يأكل منها، وأنا بالتأكيد أسعد جداً لسعادته.
في إحدى المرات وضعت قطعة التفاح وانشغلت عنه لبرهة بسيطة من الزمن، وعندما نظرت اليه لم أجدها. من المؤكد أنه لم يأكلها بهذه الفترة الزمنية البسيطة، نظرت أسفل القفص إعتقاداً مني انها سقطت كذلك لم أجدها.. انزلت القفص ونظرت الى داخله، فلم أجدها. حيرني الأمر كثيراً.. وأنهيت الموقف بأن وضعت له قطعة ثانية.. ورحت أراقبه من خلف الزجاج، لأكتشف السر (؟!) وراء إختفاء قطعة التفاح.
لأعرف القصة أن بلبلاً، المعروف عنه أيضاً حبه الشديد للتفاح، يأتي الى القفص يثبت قدميه على أحد أعمدته ويختطف قطعة التفاح بمنقاره ويفر بها هارباً خارج أسوار الحديقة. بينما كناري العزيز يبدأ بالصراخ احتجاجاً، ولكن ليس بيده أي حيلة أو وسيلة ليدافع بهما عن “تفاحته”.
أضحكني حد القهقهة ذلك المشهد.. وقلت له بعفوية ” صحتين”.. وذهبت لتعويض كناري بقطعة تفاح أخرى.
………
بعد ذلك رحت أتأمل تلك الحادثة. وأعترف أن إسقاطاتها أوجعتني جداً.
أسقطتها علينا نحن البشر. ورحت أسأل: كم عدد الأقفاص التي نعيش في داخلها، والتي تجعل كلّ من هبّ ودبّ يهاجمنا ويختطف منا قوتنا وأيامنا وأحلامنا وأعمارنا ولا نمتلك الحيلة والوسيلة للدفاع عنها!!!
كم عدد الأقفاص التي نعيش في داخلها، ومع الزمن أدمنّا عليها، لدرجة نعتقد معها أننا نعيش عيشة طبيعية، بينما الحقيقة غير ذلك!
كم عدد الأقفاص التي نعيش في داخلها، والتي تجعل مجرد التفكير في الخروج منها يعني الانتحار والموت والعجز عن مواجهة العالم الخارجي، لأننا سنسقط ضحية رخوة أمام أي تحدٍّ نمرُّ به!
كم عدد الأقفاص التربوية والاجتماعية والإقتصادية والنفسية والعقائدية والسياسية والجغرافية والتاريخية… التي نعيش في داخلها ولا نجرأ على الخروج منها؟!.
………
أسئلة كثيرة ومواجع عدة، أعتذر إن نكأت بها جراحكم.
فما رأيكم أن نعود الى الكناري نراقب حركاته ونستمع الى تغريداته، ونُبهج أنفسنا بمعزوفاته، تماماً مثلما يفعل الآن الذي زجنا داخل الأقفاص ويراقب حركاتنا وتحركاتنا ويضحك حد القهقهة علينا؟!.
ولكي نكون منصفين، ولدينا الحد الأدنى من النزاهة، يجب الإعتراف بأنه لم يقصر أبداً في إطعامنا وإروائنا، ودس قطع التفاح والخيار والخس التي نحبها، الى القفص!
د. بسّام بلّان
اسقاط جميل لكن مجحف بحقنا
فنحن تجوزنا مرحلة الأقفاص إلى مرحلة العبودية الجديدة. فحياتنا و أرزاقنا مروهونة بمن يتحكم بها سواء من شركات أو حكومات و …. و كلها تحت مسميات و عناوين رنانه