بيروت ميدان السبق
عرفت بيروت ميدان سبق الخيل، في العصر الروماني، بالقرب من محلة وادي أبو جميل، ومحلة الكنيس أولا. وقد تم إكتشافه في العام1988. ثم عرفت ميدان سبق الخيل تاليا في القرن التاسع عشر بين البرير والعدلية، وبين قصقص والمتحف. وكان السيد هنري فرعون، قد تربع على عرش ميدان سبق بيروت لعقود قديمة.
كانت بيروت زهرة المدن. زهرة العواصم. إعتدنا أن نكون على مدرجات المتفرجين، قبل أن ينزل السائس إلى الإسطبلات، ويتفحص الخيول. ثم يسلم الجياد للمتسابقين. فنرى الجوكر، وهو إلى رأس حصانه، ينتظر الإشارة، ليمتطي الجواد، ثم. ينتظر إشارة أخرى، صفارة أخرى، ليعلو الجواد. ثم ينتظر إشارة ثالثة، على أحر من الجمر، وهو بكامل الأهبة والإستعداد بثيابه الممميزة، ليسرع في السباق في حفل السبق. وتهرول أمامه أموال المراهنين، على الحصان الفائز في السبق.
كانت الحروب تجري في بيروت، ولا يتوقف الناس ومعهم المراهنون، من جميع أنحاء بيروت، على النزول إلى ميدان سبق الخيل. كان ذلك من علامات المكابرة على الحرب. من علامات التفاهم على الحرب. من علامات التفاهم على الهدنة. من علامات التمسك بشيم الرجال. بشيم الدولة. بشيم رجال الدولة. وكان السيد هنري فرعون، ملكا متوجا في ميدان سبق بيروت، بلا تاج. وكانت أموال المراهنين تجري مع خيول السبق، في ميدان سبق بيروت.
اليوم صارت بيروت كلها، ميدان سبق. لم يعد للسبق يوم واحد. ولا عشية واحدة. غابت الأحصنة كلها، ولم يعد في الميدان إلا حصان واحد هو الدولار. يخرج الناس وراءه، يلاحقونه في الشوارع. وهو يهرب من وجوههم. يلاحقونه في دكاكين الصيرفة. وهو يتخفى عليهم. يلاحقونه في الحوانيت. في الأسواق. في المزارع. يلاحقونه لدى البقالة. يلاحقونه في المزارع. يلاحقونه عند الينابيع. عند الصنابير. أمام الأفران والجامعات والمدارس والصيدليات والمستشفيات. وفي فواتير الهاتف والكهرباء والمحروقات والأنترنيت، وقطع الغيار. تراه يهرب. يهرب بسرعة. يقفز. تعلم القفز على الحبال. صار ملك الجمباز واللعب على الحبال.
سمعت سعدانا يقول لسعدان، متى تبطل “لعبة السعدنة”. متى تتوقف عن السعدنات. كنت لا أعرف التورية. الآن تعلمتها: إنه يتحدث عن لعبة الدولار. عن الشطارة في لعبة الدولار. عن القفز وراءه بين الحبال.
يقفز من رقم إلى رقم. لا يهمه الليل ولا النهار. لا يهمه السحر ولا التأخر في السهر. لا يهمه البكور على الناس، قبل بكور الطير في الوكنات.
تعود الناس في بيروت، أن يسابقوا الدولار. أن يدخلوا في سباق معه، من الفجر إلى النجر. يريدون أن يقفوا عليه، كل برهة. كل دقية. ساعة بساعة. صاروا، كلما مروا من أمام دكان صراف، يستأنون قليلا حتى يسألوا عن سبق الدولار. صار الجميع يلهثون وراءه، وهو يركض أمامهم، مثل كلب صياد، أتعبه اللحاق بالطريدة. فعاد يتمسح بأذيال صاحبه يأخذ نفسا عميقا، من شدة اللهاث.
غلوة سباق الدولار في بيروت هذة الأيام، حافة المئة ألف. ترى الناس ينزلون جميعهم إلى سباق الغلوة. كلهم مشاركون. كلهم مراهنون. كلهم مضاربون. لكن الجوكر في مكان آخر. مختبئ في مكتبه، خلف جدران سميكة. وخلف أنظمة غليظة. وخلف عصا غليظة. صار يستعمل الفقراء مهاميز، لحث الناس جميعا، على المشاركة. على المقامرة. على المغامر. على خوض بحر المغامرات.
بيروت كلها، صارت ميدان سباق للدولار، أمام الليرة اللبنانية المنهكة. كلما إستوقفته قليلا. كلما رجته قليلا، كلما طار سريعا وحلق. يريد الغلوة. يريد بلوغ المئة ألف.
كان ميدان سبق بيروت، قبلة العرب. قبلة أهل العواصم، في جميع أمصار العالم. كان لبيروت ميدان سبق، يؤمه الناس. يؤمه المتفرجون والمراهنون، من شتى أنحاء العالم. أما اليوم فغدت مدينة منكوبة. يشهقون أهلها ولا يلحقون. وراء دولار يركض مثل ألسنة النار. يركض مثل سعار. صارت بيروت كلها ميدان سبق له. فلا يستطيع أحد أن يرجوه. أن يوقفه عند حد. أن يجعل الأهل يطمئنون إلى الغد. بيروت منكودة الحظ هذة الأيام. خوى ميدان سبق الخيل، وحلق ميدان سبق الدولار.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.