الاعلامية والكاتبة دلال قنديل تكتب في ” السبت الثقافي ” مقالة على هامش تكريم الأديب عيس مخلوف في المهرجان اللبناني للكتاب الذي أقامته الحركة الثقافية / انطلياس في دير مار الياس في لبنان.
كما زودتنا الاعلامية دلال قنديل بكلمة الشاعر عباس بيضون خلال احتفالية التكريم ..
-×-×-×-
عيسى مخلوف يعود مكرماً للبنانه:
” لولا هجرة والدة جبران لبقي جبران يسرح في اعالي بشري ولم نعرفه فيلسوفاً واديباً” . .
الأديب عيسى مخلوف خلال تكريمه في أنطلياس
كتبت دلال قنديل :
أن يعود الشاعر والكاتب عيسى مخلوف مكرماً الى لبنان من نافذة الحركة الثقافية لإنطلياس، حدث ذو دلالة ،في ظل ما تشهده البلاد من تداع وإستنزاف قدرات شبابها على مواصلة العيش في حمى صراعات الطوائف وتسلط الزعامات.
خرج الشاب عيسى مخلوف من لبنان بحثاً عن أمان أفقدته إياه حمم القذائف والصراعات الطائفية، خلال الحرب اللبنانية
لم يشبع من والديه كما يكرر ولا هما شبعا منه .
عاش في الخارج وهو اسير الداخل حتى اللحظة .إنجازات اكاديمية وأدبية عدة نال فيها جوائز وتقلد مناصب في مؤسسات أعلامية وادبية ودبلوماسية كسفير للثقافة في الجمعية العامة للامم المتحدة، تلك التجربة التي أتحفنا بعدها بكتاب ” مدينة في السماء ” الصادر عن دار التنوير.
كأننا بالبعد نزداد تعلقاً، بالألم نداوي جرحَ حلمنا المفقود بوطن لا تُشفي منه البدائل.
توالت الكلمات ،بعد تقديم رئيسة الحركة، على سكب نتاج المُكرم ومسيرته بقوالب ادبية. بينها نص نثري مؤثر وخاص لصديقه الشاعر عباس بيضون أوجز فيه ببلاغة، تجلت فيه رؤيته لعيسى مخلوف الصديق والشاعر…
وكلمة مقتضبة للشاعر الدكتور انطوان ابو زيد ومداخلة للصحافي عقل عويط ولآخرين توالوا من اصدقائه .
في تلك الأمسية الحميمة التي بدت كأنها تجمع أفراد أسرة فرحين بعودة نجلهم بعد سفر طويل.
خلال الندوة التكريمية
وأنا اشاهد عبر منصة الرابطة الثقافية لانطلياس وقائع هذه اللحظات المؤثرة، يتردد صوت الدكتورة مارلين كنعان بحماسة في تقديم نتاج صديقها عيسى مخلوف دون تغييب شخصيته الإنسانية، تراءت لي صورة أخرى لو أن فكرة “تهريبه” الى فنزويلا لم تضغط على والديه ، هل كانت لتولد وسط الجحيم الأنوار التي فتح نوافذها امامنا الأديبُ المكتمل نضجاً اليوم بحكمة تقارب الفلسفة في الشعر والنثر؟.
ما هي إلا لحظات ،تنتهي تلك الامسية على إرتفاع جديد لأرقام الشباب اللبنانيين المنتحرين كقافلة تمضي لمصيرها المحتوم.هل بقي مفرٌ من الموت سوى الموت اليومي البطيء؟.
عالمان منفصلان يأتيان من كوكبين مختلفين.
كأننا امام الحلم الذي لا يماشي الواقع.
كأن ذاك النبض الذي نسمعه ولو بطيئاً في الجسد اللبناني المتلاشي إشارة بأن الأمل بالنور ممكن بعد الإنطفاء.
تسللت بين الصور خلال التكريم صورة عيسى مخلوف الى جانب والدته التي زارته مراراً في باريس. ربما ليس فقط لتشفي بعضاً من اشواقها بل أيضاً لتشجيعه على التمسك بذاك الابتعاد.نحن الأمهات ندرك مشقة الانسلاخ بتشحيع ابنائنا هل الهجرة.ما أصعب تلك التعابير التي نخفي خلفها دموعاً حارقة ” لا تفكروا بالعودة ، إبقوا سالمين”.
عندما يصبح الوطن مقبرة لشبابه، ماذا يبقى منه؟
إحتفال التكريم تبدى كتلك اليد الممدودة من الداخل لمن هم في الخارج،جسراً لن ينقطع، تلويحة الوداع الابدي لطريق لا رجعةَ فيه.
“لا مكان للناجين هنا …نحن نحتاجكم هناك…نستعين بوهج تفوقكم على النقصان.”
وجدتني والصور تتوالى أمامي على الشاشة أردد سؤالاً للصديق الشاعر عيسى مخلوف طرحه عليّ مرة ليطمئن شوقي لأحد أبنائي” ماذا لو لم تهاجر والدة جبران خليل جبران لأميركا لبقي جبران يسرح في اعالي بشري ولم نعرفه فيلسوفاً واديباً” . .
هكذا هو بالفعل عيسى مخلوف تأتينا افكاره دائماً من جهة السؤال ،صادمة لنعيد النظر حتى بذواتنا ، كانت عبارته جسر عبوري لمغالبة اشواق الافتراق و التحليق فوق لهب الجحيم الذي يبقى أثره بليغاً، دفيناً، وموجعاً حتى الممات.
الكاتبة دلال قنديل
إيطاليا
هذه صورة مع ناشر دار التنوير حسن ياغي في لقاء جمعهما بباريس هذا العام.
مع الشاعر عباس بيضون
كلمة الشاعر عباس بيضون في حجفل تكريم الكاتب والشاعر عيسى مخلوف في المهرجان اللناني للحركة الثقافية في أنطلياس :
من بلد إلى بلد ومن لغة إلى لغة يخطر عيسى مخلوف، يبتعد فيما هو يقترب، ينقل الصداقة من لغة إلى لغة ومن بلد إلى بلد. في الغياب دائماً وقت للحضور، بل في الغياب ساعة للحضور. ثمّة ما يزداد اتّصالاً كلّما نأت المسافة. ثمّة ما يمتلئ كلّما طال الفراغ. عيسى، إن على مقربة أو على مبعدة، يعطي روحاً للوقت، يعطي روحاً للمكان. يمكننا لذلك القول أنّ أرواحاً كثيرة تتمثّل هكذا في شخص واحد. أنّ الصداقة لا تحتاج إلى أكثر لتكون قائمة، ولتتواصل وتتضاعف وتستمرّ. أنّ صناعتها وفنّها وكلامها أمور تصدر في تلقائها عمّن يجعل منها نسيمه وصوته وموهبته. لعلّ عيسى الذي يجمعنا معاً، شيء أرقّ من النسيم وأرهف من الصوت هو تماماً ذلك الشخص الذي موهبته الحبّ وربّما فنّه. لذا فإنّه قادر على أن يصنع تحفاً من نوافل وعاديات، أن يخلق مآثر من نكرات وعابرات، أن يُعلِّم الحبّ بحركة يده وإشارة رأسه، وفقط نظرته. لعلّ الحنان ليس شيئاً آخر، ولعلّ الرقّة هي ذلك الذي يسري في الفضاء ويصل عبر الغياب ويلامس من بعيد. لعلّ الرقّة إذا جاز لها أن تكون شخصاً فستكون عيسى مخلوف.
لا يسعنا أن نجد اسماً آخر لعيسى سوى الشاعر. إنّه الشاعر في القصيدة أوّلاً. له قصيدته التي عمل عليها عقوداً من سنين. من يقرأ شعر عيسى سيطالعه ذلك العمل. سيجد كيف يرفع عمارة شعره حجراً على حجر، كيف يتجلّى ذلك الشعر أكثر فأكثر، كيف يسبق نفسه ويتخطّاها، كيف يزداد توغّلاً في عناصره، كيف بالمعنى نفسه ينبني شيئاً فشيئاً ويتضح وتعمر رؤاه. ولا بدّ من القول أنّ شعر عيسى فيما هو إيقاع هو أيضاً معمار، وهو أيضاً فكر. إنّه شعر يستدعي، بالمستوى نفسه، الفكرة والصورة، لكن الشعر ليس كلّ كتابة عيسى. يمكننا أن نتحدّث أيضاً عن السرد. لن نجد في أدبه رواية، لكننا سنجد فيه همّاً برواية، اقتراباً من القصّ، بل قصّ بطريقة أخرى. ذلك أنّ الحوادث والوقائع، وربّما العاديّات واليوميّات ليست بعيدة عن أدب عيسى. أدبه لا يستخفّ البتّة بمجريات الأمور. لا يستخفّ بالمبتذل والعادي والنكرة والغفل، هذه جميعها واردة قائمة، لن يكون منها رواية، لكنّها ستبقى مع ذلك تثري أدبه وتمنحه صورها واستعاراتها ومعانيها. يمكن أن نجد باريس في أدب عيسى. له باريسه لكن له نيويوركه أيضاً، كما أنّ له عواصم ومدناً أخرى، بل نحن نستطيع أن نجد في ذلك كلّه أدباً مدينيّاً، أدباً يحتفل بالمدن ويبني منها، لا صوراً فحسب، ولكن أيضاً أفكاراً وتأمّلات، بل يمكن القول أنّ المدن التي تنقّل عيسى بينها واستمدّ منها جميعها، وتأمّلها عيشاً وفكراً وروحاً وأسلوباً، أنّ هذه المدن ليست وراء سرد عيسى، بل هي بالدرجة نفسها، قد تكون وراء شعره، ووراء فكره.
عيسى ليس فقط شعره ومذكّراته إذا جاز لنا أن نطلق هذا الاسم على كتاباته المدينيّة. عيسى هو أيضاً وبالدرجة نفسها رجل فكر، ولنقل رجل تأمّل. هو الذي تنقّل بين اللغات والبلدان، لم يغفل السياسة ولم يغفل الوجود ولا الكون. إنّه أيضاً يلقي على ذلك كلّه نظرة كاشفة، أكاد أقول نظرة فاضحة. عيسى يحتفل بالعالم، لكنّه أيضاً حيملك نظرته المنفصلة إليه. نظرة قد تكون أحياناً سوداء، وأحياناً لاعنة. قد تكون في أحيان كثيرة غاضبة، لكنّها لن تكون ملعلعة. إنّها أقرب إلى التشاؤم، لكنّها مع ذلك ليست ناعية. للموت مكان في فكر عيسى، مكان أثير ودامغ وكبير، لكن عيسى مع ذلك ليس منشداً للموت ولا واقفاً عنده. الوجود إشكاليّ ومزدوج ومتناقض، يعي عيسى ذلك ويبني عليه، لكنّه لن يكون جحيماً ولن يكون فقط لعنة.
قد تكون هذه مناسبة لوقفة صداقة مع عيسى هو الذي أثرانا بكرمه وحنوّه. إننا هكذا نقول لعيسى إننا نحبّه.
الشاعر عباس بيضون يلقي كلمته في المهرجان التكريمي للكاتب عيسى مخلوف
عيس مخلوف مع أدونيس
مع شاعرة الحداثة والفنانة التشكيلية إيتل عدنان