مرافئ الذكريات وقناديل الحنين
يجرفك تيار العالم إلى مرافئه. تضيع بين مرافئ الكون وأنت تبحث عن مرفأ واحد
(د. جان توما، كما الإعصار، ص ١٩٩)
مرافئ العالم وتيّارات الحنين.
بين مرافئ الكون ومرفأ الحياة أمواج تتقاذفها الرياح.
بين الجمع والمفرد مفرد بصيغة الجمع، على حد قول الشاعر أدونيس.
وعنوان الكتاب “گما الأعصار” الذي استقينا منه هذا النص يشي بالعواصف والعواطف.
بينك وبين التيار صراع. هو يشدك إلى العمق، وأنت تبحث عن مرفأ يقيك غوائل الغرق.
تيارات العالم تحمل سفينة أوليس إلى جزائر الضياع. والمرفأ المنشود عند بينلوبي، سيدة الصبر وأميرة الانتظار.
الكاتب د. جان توما
كيف يمكن لك، أيها المتوغل عميقاً، في لحج التيه، أن ترسو على شاطئ الأمان والحنان؟
كيف يمكن لزهرة التوليب أن تحتضن أغوار المسافة بين الماضي والمستقبل؟
مرافئ الأنت إعصار يبحث عن أرض بلا سدود.
قناديل الحنين نار تحرق الموج بجمرات النسيان، في نيسان.
وحين يخترق البوح عمق الأشواق، تنكسر مرايا الذاكرة المرصودة باسم الحلم حينا، وهيولى الأحزان أحياناً.
جان توما، يا صيّاد الجماليا، في عبق من ألق الربيع اللازوردي الهينمات، حروفك إكليل من البحث المعتّق بالنجوى. بوحك انتظار من يأتي ولا يأتي.
وفي أريج المسافة بين بحرك والميناء ستائر عنفوان.
كما الإعصار غوص في تراث ذاكرة الأمكنة والأزمنة والأشخاص. تهبّ من فصوله رائحة البحر الميناويّ، وزهر الليمون الطرابلسي. وعلى شاطئه “مائدة المحبّة”.وقناديل الحنين.
غلاف كتاب الدكتور جان توما
وكيفما قلّبت الطرف، في دفتٓي الكتاب، تطالعك صور الأمكنة والأشخاص. صور من عالم الأمس القريب المضمّخة بالكرامة والعنفوان، وذكريات عن “رفاق درب”، طبعوا عالم الأديب التوماوي بسمات الفخر والمحبة، من فيروز، (ص ٩٣)،إلى المطران خضر، إلى
عاصي الرحباني(ص ٩٤ )، وعبد الله شحاده، وصولاً إلى “هاشم الأيوبي: أمير موسم “قطاف الخريف”(ص ١٠٥)
شخصيات نقلت صورٓها الزاهية مخيّلةُ بحّار عتيق، يجيد الغوص على المحار، في أعماق البحار.
وكان جمع هذه اللآلئ في منشورات شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده دليلاً على عمق العلاقة بين الزيتون المبارك والمحار.
أما فصل “لوحة وكلمة”، فيتداخل فيه الشعر والرسم، والنثر الفنّي. وإذا الريشة قصيدة تنبعث من رماد الفينيق، والقصيدة لوحة فنّيّة غنيّة بمداد الأحلام والتخيّلات.(ص ١٣٩-٢٢٩).يقول الكاتب في نص بعنوان”يا بحر”:
هو البحر، يخرج الناس إليه كعودة إلى الرحم”
الذي راح، واتصال بحبل السرّة الذي انقطع. ترسم الألوان بما يتهادى على موجه”نور” من خشب. الخشب يطفو ولا يدخل الأعماق، لكنه بنور يخترق الحجب بحثاً عن الحقيقة”.(ص ١٨٥)
بين الأديب جان توما والبحر علاقة مودّة لا تنقطع أواصرها، مهما طال الزمان. البحر أبوه وأمه، والأدب الجميل مسرح طفولته والذكريات.
وفيض الذكريات إعصار جديد، يرافق ذاكرة الكاتب، في وصف علائقه بشخصيّات عرفها ، وأضحت في عالم الحضور الغياب. ويظهر هذا الإعصار، بركان الحنين، في فصل بعنوان: وجوه في رتبة الذاكرة(ص ٢٤٧، وما بعدها).
صفحات من ذاكرة الوفاء دبّجتها يراعة ابن الميناء، “حارس أصالة المدينة”، كما تصفه إيمان ريدان، في ذاتيّته والتزام ريشته الجمال.
وأخيرا، إن كان الأسلوب هو الرجل، كما يقول
الكاتب الفرنسي جورج لويس لوكلير، فإن جان توما، الأديب الإنسان، يجمع في أسلوبه التخييل، وأناقة الصورة والبلاغة والإيحاء، حتى لتصبح كتاباته لوحة تجريديّة، من إبداع بيكاسو، أو سلفادور دالي. يقول في خاتمة كتابه، في وصف يعقوب خباز:
خرج يعقوب من الكتاب إلى الكتاب، ومن أبجديّة طرابلس ووجع البلد إلى حيث الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر”(ص ٢٨٦).
چان توما، طوبى لك، يا يونان القرن الحادي والعشرين، تستشرف خطر فقدان الوطن هويته، فتقول:”
تداخلت البدايات. وفقد المسؤولون البوصلة، وراح المواطنون يبحثون عن رصيف، ولو بحري، آمن، فلم يقعوا إلا على بحر واسع متقلّب، وسماء واسعة متوجّعة، كأنّ اتساع الموج المضطرب ما أبقى مرساة استقرار، ولا هدأة أفق”(ص ٢٢٨)
د. جان توما، ابن الميناء البارّ، بحرك المضطرب أنت منارته ومركب النجاة. فليت لنا حكاما، يعملون بحكمتك، ويقودون السفينة إلى برّ الأمان، حيث لا أعاصير ولا قلق.
د. جوزاف ياغي الجميل
الكاتب د. حوزاف الجميّل