طائر القطرس
كان الشاعر الفرنسي بودلير، يشبه الشاعر بطائر القطرس، لأنه يحلق عاليا ويسافر بعيدا بعيدا، ولا يهبط إلى الأرض. يعتبر أن أهل الأرض لا يعرفون معنى الطيران في الأعالي. ولهذا يستمر في التحليق، وإذا ما أراد الهبوط إلى الأرض، تحاشى أن يختلط مع أهل الأرض، لأنه ليس من طينتهم. فيختار ماءة بعيدا مموهة ويتبيء فيها.
لا أعرف السبب الذي جعلني أرى طائر القطرس، في الشاعر وجدي عبد الملك، حين وقفت على المجموعة الأخيرة من قصائده:” لم يبق لي غير الكلمات. تقديم الشاعر نعيم تلحوق. فواصل. 136 ص. تقريبا. بيروت2024″.
وجدت في الشاعر ما يتحدث عنه بودلير نفسه، والذي يحلق عاليا من قصيدة إلى قصيدة. وهو يستمرئ التحليق في سماء الشعر، حيث لا يكون إلا مع أجنحة القصائد. حيث لا يريد لنفسه، إلا أن يكون كطائر مجنح، تغريه السماء فيظل يطير ويطير. حتى يطبق السماوات العشر. أو حتى يطبق سماوات لا سنوات الحب العشر، التي سبقه إلى التحليق فيها، الشاعر الكبير عبد الغني طليس، في ديوانه الأخير الذي أسماه: “سماوات الحب العشر”.
“لأني أحب الشعر، ولأني أعشق الحبر والأوراق كواحد من الذين أغرى الحلم أشواقهم للإبحار في رحلة من الذين أغرى الحلم أشواقهم للإبحار في رحلة الكلمات التي يموت فيها الزمان ولا تموت.”
غلاف ديوان الشاعر وجدي عبد الصمد
تتصدر المجموعة الرائدة، كلمة لصاحب فواصل، الشاعر نعيم تلحوق، والتي وجدت فيها يصف طائر القطراس، أكثر مما يصف شاعرا عاديا، أو فوق الشاعر العادي. حيث يقول فيه:
” إنه الحبر الذي يروض الريح. إنه المعنى الذي يصلي غيابه كي يستريح… إنه الطريق نحو الحقيقة الكونية… يرسم لنا صورا بالعصب، ليكتب بألوان زاهية من أثير. كأنه يعيدنا إلى لحظة الوجود الأولى…. مبارك له هذة الطريق… طريق الشعر الإله.”
أراد نعيم تلحوق أن يصف، موهبة تحليق الشاعر وجدي عبد الملك، في مجموعته الأخيرة التي بين يدينا، بلغته وبشغفه بشعره. وأما أنا فرأيت فيه طائر القطرس في تحليقه الدائم في سماوات الشعر. كلانا إستوقفه تحليق الشاعر. وكلانا عبر عن ذلك بلغته. والأهم من هذا وذاك، هو الإتفاق على تحليق الشاعر، في عالم القصيدة، تماما، كما رأى بودلير في وصفه، لتحليق الشعراء في الأعالي، والإبتعاد عن مادية الأرض. لأن الريح تحمل التراب، فتطير به أجنحتها، وأما التراب، فيتمسك بقلاع الصخور، وبجذور الأشجار، يخشى على نفسه التحليق، إلا بجناح من ريح تطويه طيا. فيستريح.
“تمشي بي الأيام ترسم مشهدا/ من يعرف الإبحار يشمخ سؤددا
إني هنا والعمر فيها عابر/ إني كطير في سماها غردا.”
طبعة أنيقة فاخرة. منضدة تنضيدا جيدا. ومزينة بلوحات فنية معبرة، إستوفت كل شروط الجماليات في تنضيد ديوان من الشعر، أراد صاحبه، الإنفاق على جمالياته الشكلية النفيسة، حتى يليق بالقصائد التي تطير من فؤاده إلى سموات التحليق، حيث ربات الشعر فوق جبل الأولمب. تحيك للشعراء أجنحة على غرار أجنحة طائر القطرس، الذي لا يشفيه التحليق القريب. وإنما يظل يطلب التحليق فالتحليق، حتى يحقق مبتغاه، الذي لا يشفيه التحليق القريب.
” في ومضة كل خفق وصله أرب/ يمر نجما يضيء الجفن والمقلا”.
هل نعتبر أن الشاعر وجدي عبد الصمد، مصاب بداء التحليق في الأبعاد المختلفة في عالم الشعر والحب والمكابدة والمجاهدة والنضال والحزن والفرح حتى الموت، والبكاء حتى إعادة نشوره من جديد؟. ربما قصرت هذة الغايات كلها عن شعر يظل يرغب في التحليق، حتى الكلل الأخير. وحتى آخر قطرة من عرق، حين يتفصد الجبين، وحين ينشق القلب، إلى نصفين: نصف يموت من شدة العشق. ونصف يطير.
“يا شوق أبعد ظلال الشوق عن كبدي/ قد يحرق الجمر في صحو العروق غدي.”
إلى المقدمة والتوطئة، حوت المجموعة، زهاء 24 قصيدة من الشعر العمودي الكلسيكي:
“مدخل/ إشتعال محابري بين الجمال وبينك/ جدائل عشق/ حبر مسافر/ خفقة عبق/ رحماك يا طيف/ سجينة/ شاطئ العمر/ ظل العشق/ زيارة طيف/ في البال ذكرى/ كلمات رسمت بالضوء/ لما طويت حنيني/ لم يبق لي غير الكلمات/ ما عدت أنت!/ مشيئة القدر/ همسة على شفاه العمر/ هذة بيروت/ لبنان والمحيط/ نفحة الأرز/ غدروك يا بيروت/ غزة/ تحية إلى روح الدكتور وجيه فانوس/ تهنئة إلى سماحة شيخ العقل الشيخ الدكتور سامي أبو المنى.”
ندخل إلى أعماق الديوان، فنرى كيف طاقات القصائد تستقبل جميع النفوس، من الصباحات والأماسي والنهارات والوداع والأسرار، والإكتواء بالنار وبالهجر. وكذلك بالوجع الذي له طابعه الخاص على جبين المحبين والمنكودين، وأهل الفقد.
“إن قلت، قلبي الندي لا يعرف الوجلا/ أجسد القول فعلا برتدي جملا”.
عويل داخلي دائم يستصرخ الآفاق. وأناشيد حب وأغاني ترافق أجنحة الفراشات. وأنسام عشق، تتمايل لها السنابل ملأى بالعطاء. وأنسام القوافي، تصنع لها أجنحة طائر القطرس وتطير. ترغب في التحليق، مثل ملكات النحل حين تعرس في الجوزاء فتلحق بها الذكور. ثم تتهاوى. حتى إنتحار الأخير.
“وشراسة الأسوار أرهبها دم/ يروي حقول الضوء في الأجفان.”
أكثر الأسئلة قلقا، ما يطرح موضوع نهاية رحلة الإنسان الأرضية ومآبها وموضوع نبع الحياة وسرها. تساؤل يحركه وعي الشاعر لواقع بتأمله: لماذا الحياة إذا كان هناك موت. يعبر الشاعر هذا البرزخ بين الحياة والموت، وكأنه يستعير جناحا من طائر القطرس. وقديما قال الشاعر:
يبكي ويضحك لا حزنا ولا مرحا/ كطائر خط سطرا في الهوى ومحا.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصي الحسين
مقاربة جميلة، لنصّ جميل يستحقّها