السبت الثقافي في “ميزان الزمان” الأدبي مع الكاتبة والاعلامية دلال قنديل :
ضحايا الزلزال تستحضر اوجاعنا
“أنا أبقى في البيت” لهدى سويد كتاب يُقلبُ أوجهَ العزل ويفتح شبابيك الفنون والثقافة
-×–×-×-
كتبت دلال قنديل :
تعيدنا الكوارث الى آثار الكدمات التي لا تزول…كلما اهتز جزء من أجسادنا ، إرتعشت قلوبنا.
زلزال تركيا وسوريا الاخير والهزات التي طالت لبنان وفلسطين والجوار كانت كرجّع الصدى لترددات زلزال انفجار المرفأ بلحظاته الأولى .
نقطة فصل بين حياة وموت، فجوة تقسمُ اجسادنا، تعزلها عن عقلنا.كمن يمشي على قدمين بلا رأس.
كلما استعدت لحظة الأنفجار الزلزال تلك , أراني أبتعد لألملم الجزء المتبقي مني.
كيف نجترح من المآسي علاجاً؟
” أنا أبقى في البيت ” ل هدى سويد
كتاب الصحافية الكاتبة اللبنانية هدى سويد المقيمة في إيطاليا ” أنا أبقى في البيت” هو العنوان المستوحى من حملة دعوة الايطاليين لعدم التجول في زمن وباء كورونا، وهو مرآة لتفاعل الكاتبة مع عزلتها القهرية وتحويلها الى قوة إبداعية.الحدث الفردي المتمثل بالعزل بحيث بات شهادة توثيقية و مرجعية لكتاب سيكون حاجة في كل زمن ومكان , لمن يرغب بالعودة لتلك الحقبة.
غلاف الكتاب للروائية هدى سويد
” النهارات ثقيلة طويلة أشبه بالشوارع المقفرة من الناس قبيل الأفطار قبيل ثوان معدودة لمدفع رمضان دون آذان.” تتمازج الصور بين الذاكرة والواقع ” يدبُّ الرعب ، لا تعرف أين وصل وإلى اين رحل ومتى حلّ او سيحلّ هكذا لا شكل ملموساً له، لا وقع قدم ولا صوت.”
” في علاقتي بالطبيعة علمت كيف تنمو الأوصال وتكبر، ولماذا تصمد من دون أن تمل تقلّب المواسم، وعلمت أيضاً كيف احاورها وأسمع نداءها ، اشكو إليها وأعتذر منها.”
ينسابُ السّرد بموضوعية محسوبة ، متنقلة بين شاعرية اللغة وعلميتها لتحليل مسار الوباء ، أصله الآتي من الصين، دون ان يفوتها حادثة وفاة الطبيب الصيني الاول الذي كشفه قبل إنتشاره، وقبل إطباقه على انفاس المواطنين الذين رُميت جثثُهم في جرافات تجول من مدينة لمدينة في اقصى الشمال الايطالي بحثاً عن مدفن او محرقة .
حدث بهذه الفظاعة لم تكتفِ الكاتبةُ بسرد مؤثر عنه، أمسكت في سياق سّردها خيطَ التحقيقات من خلال الدعاوى التي رفعها اهالي الضحايا.
تسكب من ذاتها رؤية في نقل الوقائع ولا تكتفي بترجمة حرفية لما تتلقاه من معلومات عبر الصحف ووسائل الاعلام ، إعتمدت الإستقصاء بمقابلات شخصية لأهل الاختصاص.
قابلتهم ونقلت عنهم .
تسأل وتحلل ” لماذا تترك دولة عظمى غنيّة ، يقدِّر المرء تاريخها الحضاري وتطورها التكنولوجي العلمي ، اسواقها دون رقابة؟ وهل عذرها يكمن بأنها غير قادرة على حكم مليار ونصف المليار نسمة؟
كنت اتابع أخبار ” ووهان” وأتذكر الزيارة، وأتساءل : دولة عظمى تتحكم بالدولار وتدفع لمشاريع خارجية مليارات الدولارات، بينما يدخل مواطنون منها خلسة الى دول عدة(من بينها إيطاليا)-كتاب “الغومورا” لروبرتو سافياتي- ويعيشون خفية كمجموعات في مساكن غير صحية ، يمارسون مهناً مختلفة كالتمريض، الخياطة ،الجراحة وطب الأسنان…”
هكذا توسع هدى سويد منظار الرؤية في سّردها .. يتشعب البحث نحو مدارك متعددة في الثقافة والعلم والفنون.
كأن تقول:”أُعلن عن إغلاق النزهة التي تُقام على طول جدار لوقا الشهير ، جدار مرّ الناس افراداً وجماعات بمحاذاته بلا خوف عبر السنين وتنعموا بجماله , وجمال” باركه” المديد المطل على المدينة التاريخية وعلى كنيستها سان مارتينو، حيث الوجه المقدس ل” نيكوديمو” ومنحوتة نعش ” إيلاريا دي كاريللو” للفنان لاكوير شيه.”
لتختم هذا السرد الجمالي عن مدينة فلورنس الشهيرة التي دخلت مرحلة الحجر المطلق بالسؤال :”كيف يمكن ذلك؟ “
تتمردالفكرة على الوباء كحاجة للتواصل مع عالم خارجي بات معزولاً ، عدنا افراداً في ذلك الزمن .
“فجأة انقطعت وتناثرت الحلقات ، وإذ بي اجد نفسي مُمدّدة فوق فراش في ساحة مستشفى سرزانا، ثم قُبالة مُستشفى سان مارتينو المليئة بالتماثيل في جنوى تُرافقني موسبقى الريكي، أغمضت عينيّ مُستسلمة ل يوغا نيدرا، غبت مسافرة في تأمل الجسد…”
تفككت الجماعة الى وحدات منغلقة . كيف يمكن لوباء غير مرئي أن يعبر كل هذا الجمال ويحجبه؟.
لا تلبث روح التمرد على العزل ان تجسد الفن مخلصاً نلتقط الفكرة بين سطورها :” لذا سعى الإيطاليون الى استرجاع قدراتهم ، بحيث شهد كل يوم حدثاً اجتماعياً وفنياً تحدياً للوباء ، تحولت معه إيطاليا الى مهرجان للحماسة بدءاً من الثالث عشر من آذار، شاركت فيه الشاشة الصغيرة دون توقف ، بإستضافتها لحوالي مئة فنان لحث المواطنين الإلتزام بشعار ” أنا أبقى في البيت”.
كيف تفاعل الجسم الطبي مع الوباء ؟ كم من التضحيات قدمها لا سيما قبل توفر وسائل الوقاية اللازمة؟ كم من الاخطاء ارتكبت وفاقمت من سرعة إنتشار الوباء ورفع عدد الضحايا في بيوت المسنين وغيرها؟ كيف تأقلم المجتمع مع فكرة الإقفال التام ؟ لماذا تأخر؟ ما كانت إنعكاساته على الاقتصاد؟ تسرد هدى سويد أدق التفاصيل، لا تضيع عن الاجوبة، مايجعل الكتاب وثيقة تؤرخ لحقبة تاريخية دخلت معها إيطاليا والعالم ما قبل الوباء وربما لم نتجاوزه الى مرحلة ال ما بعد وهو يطل برأسه كل حين بمتحوارت متجددة. ايضاً بالآثار الاقتصادية التي فاقمتها الحروب والتناحر العالمي على الثروات.
تتوقف هدى عند آثار الحجر “أما على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي، فقد كان الوباء عاملاً في انحناء إيطاليا حتى ركبتيها، ويكفي القول إن خسارة ايطاليا الاقتصادية حسب الاحصاءات الرسمية في الثامن من تموز بلغت تقريباً ١٧٠ مليار يورو.اما في القطاع السياحي فبلغت٢٤ ملياراً…واجهت الاجراءات الحكومية انتقادات كثيرة ، ونظمت الاتحادات المعنية، وفي مقدمتها العمالية تظاهرات بمناسبة الذكرى الاربعين لتأسيس النظام الصحي الذي وصفته بالمُزري”.
الكتاب مؤلف من ٢٤٧ صفحة،صادر عن دار الفارابي، تضمن خمسة وعشرين صفحة لملحق من الصور والبيانات ما يجعله وثيقة لا يمر عليها الزمن أهلته قبل أيام ليكون كتاباً مصنفاً في المكتبة الفرنسية الوطنية، وبمكتبة جزيرة سردينيا.
هدى سويد الصحافية المخضرمة كانت العين المراقبة عن كثب ليوميات الوباء ، المشككة بالمعلومات ، المدققة بالوثائق، حاملة أسئلتها الى ذوي الاختصاص للتقصي.
تخلت الكاتبة عن دور المراقب الى الباحث عن معرفة هذا السر الغامض الذي داهم حيواتنا وحاصرنا حتى قبالة شريكنا في المنزل.
تروي هدى سويد بسرد مفعم بالحياة حكاية الموت اليومي الذي كان هاجساً ، تعيدنا للفنون الإيطالية على انواعها، للمتاحف واللوحات والكاتدرائيات كلما أتت على ذكرها .
كأن بالجمال ينتشلنا مرة اخرى من الموت.
دلال قنديل
إيطاليا
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل