فوهة البركان
يتحول الوقت بالتدريج، إلى سلعة ذات قيمة. رغم أن عبارة: “الوقت مال”، كانت قد إشتهرت بفضل بنجامين فرانكلين. وذهب القس البيوريتاني ريتشارد باكستر إلى القول: “إن تخليص الوقت من الخطيئة يعني ألا نضيعه عبثا. بل أن نستغل كل دقيقة منه كأنه شيء ثمين”.
ثمة ما إستوقفني، وأنا أقرأ رواية: “زياد كاج. بناية “تي- في- تكسي”. الصنوبرة، رأس بيروت، سيرة مكان. دار نلسن2023. 224ص.” ذلك أني وجدت نفسي بنفسي، مشدودا إلى الزمن المختبئ، تحت ركاميات بيروت الآن. تحت بيروت الركام.
( في تلك البناية وفي ذلك الحي، إنتظرتنا أقدار وأحداث وأناس، وتقلبات وتحولات، تجاوزت الخيال، كأنها حياة ومحطات مرسومة مسبقا بريشة قدر. حياة على فوهة بندقية.) “ص11”.
كنت أتابع فصول رواية زياد كاج بشغف، فصلا فصلا. لأنني كنت أريد أن أهرب من فوهة البركان، الذي وجدت نفسي أعيش فيه. أليست بيروت. أليس رأس بيروت. أليس لبنان. أليس هذا الوطن الصغير، مجمع تلك العائلات في الستينيات والسبعينيات، قد آل إلى بركان، رسمت فوهته، بفوهات البنادق التي ظهرت فيه فجأة العام1975، بعدم كانت تدب إليه وتختبئ فيه، منذ حزيران، عام النكسة1967. وقبله منذ عام الثورة في العام1958. وقبله أيضا وأيضا، منذ عام النكبة العام1948.
“خلف أملاك آل العيتاني- من ضمنها الدكان الذي ورثه يوسف عيتاني عن أبيه- المواجهة للصنوبرة الشهيرة، هناك قطعة أرض بور. فيها بيت قديم شبه مهجور. سقفه من قرميد. وترتفع إلى جانبه نخلة منحنية، تسكنه إمرأة متقدمة في العمر. تعيش وحدها. ولا تخرج إلا ليلا. يقال إنها كانت تعاني من مرض عقلي- تسكنها الأرواح- وكان شكلها مخيفا بسبب بياض شعرها المنكوش في الإتجاهات كافة، وبسبب ثيابها الرثة أيضا. لطالما خشيت العبور في الممر الضيق القريب من بيتها، للوصول إلى شارع الصنوبرة. وكنت أسلك الطريق الأطول، بالقرب من “حلوايات التنير” صعودا ولو نهار.”
الكاتب زياد كاج خلال توقيع كتابه في رأس بيروت ( تصوير يوسف رقة )
الروائي والصحافي زياد كاج، إستطاع في هذة الرواية الجديدة له، لا أن يسرد لنا سيرة مكان وحسب، بل أن يجعل الزمن يسيل علينا، يطوف بنا، ونحن نتابعه، مثل طوفان عظيم غاشم، لا يرحم الناس الذين قذفتهم الحمم، للعيش فوق فوهة البركان، ولو على غفلة منهم. ولو على غفلة منه.
” تبدلت أحوال سكان “بناية الزاهد”، خلال الحرب، بعد إنقطاع الكهرباء، وتقنين المياه وفلتان الشارع. إزدادت حاجتهم لنا كأبناء للناطور. فتحسنت معاملتهم معنا. خاصة أولئك الذين أدرجتهم على اللائحة السوداء من أمثال مدام بورسالي وغازي بو زين المتشاوف الذي لا يضحك للرغيف السخن. وإميل البتروني الذي تآمر مع “أبو بوز” للتخلص من أبي وجلب ناطور جديد للبناية”.
سليمان بختي : يكتب روايته مع الريح
يقول الأديب والكاتب، الأستاذ سليمان بختي، وهو يصدر هذة الرواية على غلافها الأخير، تحت عنوان “هذا الكتاب”:
يروي زياد كاج في هذا الكتاب سيرة المكان وأهله وأحواله وتحولاته. قصة أخبار وحوادث سكان بناية “تي، في، تاكسي”، الصنوبرة، رأس بيروت، على مدى أكثر من نصف قرن.
ويتابع الأستاذ بختي، توصيفه لرواية، بل سردية زياد كاج، فيقول إنه يقترب من سر عميق وخطير في رأس بيروت، هو السكان. أكانوا في البناية، أو في الشارع، أو في الحي، أو في المدينة. وكيف تشكل هذا الفضاء الجميل و الملون والغني والمتنوع؟ وكيف عصفت به رياح الحرب وشلعته. يكتب عن أخبار الذين عانوا. والذين حضروا. والذين سافروا. أو صاروا الحنين.
ولا غرو، فزياد كاج كما بدا لنا من خلال هذة الرواية الأثيرة والأخيرة، أنه إلتحق ببيروت، من خلال أهله، الذين التحقوا بهذة المدينة، على زمن الفرنسيين، والإنتداب الفرنسي. وقال لنا: إن فوهة البندقية الفرنسية، هي التي قذفت بأهله، للعيش، مصادفة، فوق فوهة البركان. ولهذا يقول الأستاذ سليمان بختي، في معرض متابعته لرواية الأستاذ كاج: إنه يكتب قصتنا، مع الريح أو الزمن المضطرب. لنكتشف، في نهاية المطاف، أن الذي فقدناه، هو ذلك التنوع الجميل في نسيجنا الإجتماعي والثقافي. تلك الألفة. وتلك الرموز والمعالم التي نهضت وطبعت المدينة بطابعها.
غلاف كتاب زياد كاج الصادر عن دار نلسن
” الدكتور رشيد الضعيف شكل حالة ثقافية نخبوية خاصة في البناية. سكن مع زوجته الفرنسية في الطابق الثاني، لجهة بناية الغالي غير المطلية. بدا ملفتا بنظارته ونحافته وشعره الخفيف. جاء من “ليالي الشمال الحزينة” إلى بيروت، حيث كافح وناضل ليصبح أستاذا جامعيا ملتزما، يوحي بأنه لا ينتمي إلى هذا البلد. كانت زوجته الفرنسية ملفتة بطولها ولباسها البسيط. وبتسريحة شعرها التي تشبه تسريحة المغنية ” ميراي ماتيو” مع فارق في طول القامة. عاشت لفترة معه في رأس بيروت، لكن صوت صراخهما ليلا، المتسلل إلى مسامعنا من شباك الصالون، أوحى لنا أن زواجهما لن يصمد طويلا. وهذا ما حصل. شمعت الفرنساوية الخيط وبقي الدكتور في شقته يتابع تدريس مادة الأدب العربي، في الجامعة اللبنانية. ويهتم بإبنه الوحيد “.
ذلك أن زياد كاج، إستطاع بقلمه البارع، كما بألمه العميق، أن يرسم لنا حدود البركان من فوق. دون أن ينسى أن يحدثنا، عن ثورة البركان من تحت. ولهذا ربما، وجد فيه الأستاذ سليمان بختي، تغريبة، بل سردية بأسلوب ممتع وجذاب. سيرة متشعبة. أرواح هانئة أو خائبة. أغنية. نشدان لعالم نكاد، لا نصدق أننا عشناه. وكنا شهوده. وأبطاله وضحاياه.
” كنا آخر المغادرين للبناية. فلم يستطع كوكو الصمود وحده. صعد معنا في سيارة الأجرة التي جلبها أخي رياض. أبي لم يتقبل، بسهولة، فكرة الصعود إلى الضيعة. رافقنا رغما عنه.”
المزج بين الماضي والحاضر
يعمل زياد كاج في روايته التي بين يدينا، على المزج بين الماضي والحاضر، وربما المستقبل، في كل متابعة من متابعاته اليومية. فهو لا يستطيع تخليص المكان من الزمن العالق فيه. ولهذا ربما، إختار أن يدخل في حوار فني ثري، بين الماضي والحاضر، لأنه كما نراه، يعتمد العرض على خط روائي متصاعد. يبدأ بالأساسيات. كما بالممارسات الأولية المؤسسة، لينتهي عند حدود رسم المكان، كلوحة إناسية، مشبعة بالإناسة حتى حدود الإنفجار. ولهذا لم يجد صعوبة في الوصف. لأنه كان يستقرئ المكان، بعناوين الأزمنة التي عبرها جميعا.
” إغتيل المربي ميشال واكد. والفيلسوف حسين مروة. والدكتور مهدي عامل. وسهيل طويلة. وخليل نعوس. ونور طوقان وكثر غيرهم. فشهدت بناية ال تي. في. تاكسي” هجرة عائلات ورموز يسارية، خوفا من بطش الميليشيات الطائفية الصاعدة.”
شريط من الدكريات في رواية زياد كاج
تتمحور رواية زياد كاج، حول شريط الذكريات. فنراه ينسج خيوطها، من خيوط الزمن العالق في المكان، مثل طائر علق بشراكه، فلا يستطيع الفكاك منه، مهما حاول الإنفلات. كأنه يقول: إن بيروت، التي وصفت بأنها عش طائر الفينيق، ما كان لها الإنفكاك من شراك ما نصب لها، عبر كل الأزمنة، والذي موه بعناية فائقة بترابها. ولهذا نراه يقضي وقتا طويلا، في تتبع التفاصيل المكررة على أرض الوطن، عبر موجات الزمن. فهو من منطلق الخبير في فن السرد، يحاول أن يشيح ببصرنا، عن الواقع القتيل، إلى الماضي المقتول، كتجربة معاصرة، تنشأ على ضفاف حوارية، بين القطاعات المكانية. وبين القطاعات الزمانية. حيث إختار لنا بكل عناية رمزية المكان، الذي يعنون لجميع المراحل القادمة: قتلا وتهجيرا. جثثا. وأمواجا. وعبورا قاسيا، في تضاعيف المكان والزمان.
“نزلت أختي عايدة إلى مدخل البناية لتودع الزعيم الذي أعاد إلى بيروت عمرانها وإزدهارها. وكانت رأته في إحدى المرات يمشي على الأوتوستراد المؤدي إلى قصره برفقة صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك.”
فنحن نستطيع أن نرى، من خلال التنوع الذي يؤكد عليه الكاتب في سرديته، كيف تستحيل فكرة الهجرة، إلى زمن أبدي لا ينتهي. عاش تحت جذور صنوبرة رأس بيروت. وذاق طعم النار، لأنه كان يعيش فوق فوهة البركان، الذي صنعته فوهات البنادق، تلك التي كانت تطلق الحمم، على حياة الصنوبر والهواء النقي والصباح الطلق.
” حل مكان هؤلاء سمان جدد لا لون لهم ولا طعم. بلا وجوه ولا ماض. يدفعون إيجارات خيالية. ويرهقون الناطور الحلبي الساكن مع عائلته الكثيرة الأولاد في غرفة المصعد على السطح.”
رواية زياد كاج ( بناية ” تي. في. تاكسي”)، كما تبدو لنا، هي عبارة عن بهو عظيم، تصف لنا التوحد الإجتماعي. كما تصف لنا التشتت الإجتماعي. تصف لنا الحب العارم. تمام كما تصف لنا جحيم العيش في فوهة البندقية وفوهة البركان، وذلك من خلال رؤية الممارسات الإجتماعية. ومن خلال التعبير عن فصول العبادات، وفصول اللقاءات، وأوقات العمل في كل الظروف. وأيضا عن أحوال الناس، في مجتمعات النبذة والألفة، والتلاقي والفراق.
والواقع، إننا إنتظرنا وقتا طويلا، لنرى أنفسنا و ممارساتنا متمثلة في العالم من حولنا، أننا نعيش التنميط القديم. والطرز الماضية للقتل الرحيم. فكانت بذلك مساهمة فنية لإماطة اللثام عن تلك الحواديث القاتلة، والتي لا تزال مستبدة بنا.
فرواية زياد كاج، أكثر من مساهمة فنية معاصرة، تعكس حيوات ناس عاشوا ولا زالوا يعيشون، بفوهات البنادق، على فوهة البركان.
” أتخطى “جامع عماش”، نزولا نحو “مطعم بربر”. ثم شارع الحمرا الرئيسي. ما زلت مغرما بهذا الشارع الذي وعيته وأنا طفل قبل الحرب، وفي عز إزدهاره. محزنة حالته وأوضاعه كأنه متروك في إهمال وفوضى عن قصد وحقد وإنتقام من أهم شريان حضاري وثقافي في رأس بيروت…. أشتاق لمنظر الشرطي المرتب والمنضبط، في الأيام الخوالي، واقفا على تقاطع محلات ال “ريد شو”….أستعيد بعضا من تفاؤلي. حين ألمح الفيلسوف علي حرب في المقاهي. والشاعر والمفكر بول شاوول، وسيجارته المطفأة بين شفتيه. جالسا على كرسيه في مقهى ال غاد فازر”… يجتاحني الحنين لزمن يوم كان الشارع محجة الشعراء والفنانين والمشاهير من البلد والعالم العربي.”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين