يوم ميلادي . .
بقلم الكاتب د. بسّام بلّان
-×-×-×-×-
1-2- هو تاريخ في بطاقتي الشخصية، يدّعي أنه يوم ميلادي.
ملايين البشر يقفون عند حقيقة يوم ميلادهم، كمُسَلّمة غيرَ قابلةٍ للنقاش؛ ويستأنفون حياتهم. أما أنا فـ “لا” .. لأن في قصة يوم ميلادي الكثير مما يقال، ومناسبة تبيح الجرجرة في الكلام.
…….
لن أبالغ إذا قلت إن يوم ميلادي كان ولايزال، من أكثر المواد إستثارة للجدال في عائلتي، ورغم أن المتجادلين كلهم كانوا واقفين بكامل قواهم العقلية والنفسية والبدنية على ذاك اليوم، إلاّ أن الخلاف بينهم على تحديده بالضبط، كان ولايزال الحقيقة الوحيدة.
أمي تقول: “لماّ قُتل سليم حاطوم كان عمرك خمسة اشهر”.
جدتي تقول: “ولدت في آخر يوم بالمربعانية”.
عمتي تجزم بأنني ولدت يوم 24 كانون الثاني/ يناير. ولشدة ثقتها بما تقول لا تضطر لتقديم أي دليل على كلامها.
أبي لم يتدخل يوماً في هذا السجال، كان يستمع ويهز برأسه دون إعطاء أي حجة أو تاريخ أو حتى رأي. وغالباً ينتهي السجال هنا، ولا أحد يُقنع الآخر بما يقول.
أمي تحاجج قائلة: هل تعرفون أكثر مني أنا أمه الذي ولدته؟؟.. ترد عليها جدتي: وهل كنتِ واعيةً يومها، وهل تعرفين أكثر مني وأنا التي كنت (الداية- القابلة)؟!.. لتضيف عمتي: أنتِ وهي لن تتذكرن أكثر مني، فأنا كنت في مقتبل العمر وأهتم بمثل هذه التفاصيل أكثر منكنّ (…. ) وفي النهاية أضطر أنا لأحسم هذا الجدال بالقول: خلص يا جماعة كل أيام الله مباركة.. فما فرقت كثير .. كلها أقل من اسبوع وانا راضٍ بالتاريخ المكتوب على بطاقتي.. مع أنني من الداخل كنت من أكثر المتحمسين لمعرفة ذلك اليوم بالتحديد.. باليوم والساعة إن أمكن، وأكثر ما يؤلمني أن هذه الفرصة سنحت لي ذات يوم بكل تجلياتها، وللأسف أضعتها كما أضعت عشرات الفرص غيرها في حياتي.
حدث ذلك عندما وقعت في يدي “مفكرة جيب” صغيرة بغلاف أسود، والأكيد أنها كانت لوالدي، وأنا أفتش أوراقها مرت من بين أصابعي وتحت ناظريّ احدى صفاحتها مكتوب في أعلاها بخط كبير نسبياً : “في هذا اليوم ولد بسّام”. ولأنني كنت طفلاً حينها لم أعرها إهتمامي أو انتباهي، فضاعت هي الأخرى مني كما أضعت الكثير والكثير من الأشياء والفرص على امتداد السنوات.
………
دائماً كنت أتظاهر بأن معرفة يوم ميلادي بالضبط ليست قضية مهمة بالنسبة لي. ولكن في الحقيقة ما بداخلي مناقض تماماً، فقد كان يغريني أن أرسل لخبراء الأبراج اليوم في الشهر والشهر في السنة بالتحديد لكي يفككوا لي خارطة برجي ويحددون ملامح شخصيتي، وبالتالي أعرف لأي برج أنتمي ولأي طالع، وأين كانت الشمس في ذاك اليوم وأين كان القمر.. ولأي كوكب بالتحديد إنتمي.. وهذا أمر لم يحصل لليوم ولن يحصل أبداً، بخاصة بعد أن ضاعت “المفكرة” ولا أعرف ما المصير الذي آلت إليه.
أمام هذه المعضلة، اعتمدت تواريخ خاصة بي يوماً لميلادي.
فأول لقاء لي على إنفراد مع تلك البنت التي أحببتها في مقتبل العمر، أردته أن يكون يوم ميلادي.. ويوم تركتني شاباً صغيراً يبحث عن حياته وإلتحقت الى جوار رجل جاهز من كل شيء، أردته يوم ميلادي.. وكنت أكرر ذلك مع كل بنت أعجب بها أو أحبها أو أواعدها.. وللمفارقة كنت دائماً أكتب تلك التواريخ في “مفكرة” خاصة وأحرص عليها كما نفسي. وعندما عدت لأوراقها بعد بضعة سنين، وجدت نفسي في دوامة كبيرة وبدايات كثيرة ونهايات مفتوحة؛ فعدت الى نقطة الصفر من جديد.. وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.
………..
في الحقيقة، أول احتفال “رسمي” بعيد ميلادي، بُوغِتُ به وأنا أتمشى في حقول العقد الثالث من عمري.. وبلا مبالغة نعم بُوغِتُ به، لأن قسم الموارد البشرية في الصحيفة التي كنت أعمل بها كان لديه تقليد بأن يفاجئ الموظفين “بقالب كيك” واحتفالية صغيرة في يوم ميلادهم.. وكان يتم ذلك باجتهاد من إحدى الزميلات الأنيقات الراقيات في القسم، واختفى ذلك التقليد من الجريدة عندما استقالت والتحقت بمؤسسة أخرى. أما ما تلا ذلك من مرات؛ فهي بالعموم ليست كثيرة، ولا تزيد على أصابع الكفين، وبأماكن وظروفٍ مختلفة.
……..
أكثر ما كان يبعث الرعب فيّ، هو أن يضيع يوم رحيلي بضياع مفكرة أوإلتباس تاريخ، والمجادلة فيه، كما ضاع يوم مولدي.. والأدهى أن يكون ذلك اليوم لا ارتباط له بموسم أو طقس أو رحيل أحد المشاهير، بخاصة بعد أن تشابهت الأحداث حد التطابق، وكثر الراحلون والوقت يمر كما البرق، والسنين تنساب من بين أيدينا كحبات رمال الشاطئ مهما جاهدنا للامساك بها… فأكون بذلك قد اضعت يوم قدومي وأضعت يوم إنصرافي، قبل أن يعيد لي الفيس بوك واشقاؤه ممن يتحلون بالذكاء الاصطناعي بعضاً من أمل.
………..
ولكن هل هذا كل شيء؟
بالطبع لا؛ فإن ضاع يوم الميلاد بضعف الذاكرة، فإن في الرحلة الممتدة بين خطي البداية والنهاية، محطات كثيرة لاتضيع في دهاليز الذاكرة، فلا يهم أحد أين هي أوفي أي وقت جاءت.. فالمهم دائماً هي المحطة بحد ذاتها.
ثمة محطات، ستجد فيها نفسك لوحدك، وكل من حولك تركوك.. وتظل متشبثاً بها، وتكتشف يوماً، وربما يكتشفون أنك كنت على حق.
ثمة محطات، سيقذفك فيها العابرون بالزجاجات الفارغة والنظرات الشامتة والكلمات الجارحة. وتظل أنت واقفاً، وربما تكتشف يوماً ويكتشفون أنك كنت على صواب.
وفي المقابل ستمر بعشرات وربما مئات المحطات، التي تكتشف فيها أنك كنت على خطأ، رغم التهليل والإحتفاء بك من الجميع.
ليبقى أن كل محطة محكومة بزمن لن تتجازه ولا مجال بعدها للمطالبة ببدل عن “وقت ضائع”.
…………
اليوم، كما كل يوم من أعوام إلتحاقي بفضاء الفيس بوك الازرق، تنهال عليّ المعايدات بيوم ميلادي المفترض؛ فأتذكر الكثير من الأشياء، واتناسى أشياء أخرى.. ولكن بالقطع لن أنسى أبداً الكلمات الجميلة من الأصدقاء الجميلين بهذا اليوم.
فللجميع مني كل المحبة والإمتنان.
-×-×-×-×-×-
أسرة موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت تتقدم من الصديق الكاتب د. بسام بلان بأطيب التهاني والامنيات له ولعائلته .
د. بسّام بلّان