نهاية اللّعبة
أهداني الصديق نعيم تلحوق ( أرض الزئبق ) وهو آخر ما صدر له من كتب ، فقرأته فإذ هو زئبق حق لا نتمكن من التقاطه ، ما أن تحاول التقاط موضوع ما، حتى تراه ينسلّ من بين اصابعك لكثرة ما تعرض له الكاتب من شخصيات وموضوعات متداخلة، بين الفرد والمجتمع ، الذكر والأنثى ، العادات والتقاليد، السياسة ، والأدب.
يبدأ الحديث بسردية الاعتداء على أبيه من قبل التحري (ص 12) وما يعني لنا الاعتداء على الأب من رمزية. من هنا تملّكته جرأة التحرش بالمحظور التاريخي عبر سؤاله : “أوليس الله أنثى؟” (ص 14). هذا النظام البطريركي فكريا وسلوكيا يحاول التعميم على دور الأنثى، ألا يجدر بنا السؤال : هل كل ما وصلت إليه البشرية هو نتاج ذكوري؟ ألم تتمكن أنثى من الوصول إلى مرتبة من العلم والثقافة تخوّلها أن تصبح مفتيا أو بطريركا، أو صاحب سلطة؟ أم هذا النظام هو الذي يضع هذه الضوابط كي لا تصل؟ وهل إذا كانت السلطة أنثوية قد تكون ربما أقل قسوة وأكثر رحمة؟
لكن أغلب الظن أن السؤال “أوليس الله أنثى؟” يسطّر الكاتب به مذكرة جلب واستحضار للأنثى لتحميلها مسؤولية صمتها على سلطة الذكر التاريخية.
يبدأ الكاتب تحرشه بالمحظور بالقول: “قال لنورِهِ الأنقى استعدي لرحلة العشق العظيم” (ص 28)، هنا تبدأ السردية بالدخول إلى عمق الوجود.
ابليس والكاتب في هذه الفقرة متوحدان حيث يتلبس الكاتب بشخص ابليس الذي أمره الله بالسجود لآدم فأبى وأجاب: قدمي قدمك، خلقته من تراب وخلقتني من نار… لن أسجد له.
هنا يدخل الكاتب إلى الموضوع الأساس وهو ثنائية الصراع بين الله (الخير والحق) وابليس (الشر والباطل) . هذه النعوت تطلق جزافا، نفسٌ واحدة تفعل الخير حينا وحينا آخر تفعل الشر، فما هو مقياس الحكم؟ ومن الذي وضع هذه الأحكام؟ البشري مسؤؤل عن أفعاله.
أما النعوت الالهية أو الابليسية، فهي لإقفال باب الحوار والتحرش لإبقاء الصراع مستعرا، فالطرفان يريدان الكل أو لا شيء. إذاً أتباع الله يعيشون في ألوهتهم وأتباع ابليس يعيشون في أبلستهم. أما الذي يمتهن الحوار للخروج من المبنى إلى المعنى فهو الأكثر جدارة بأن نتوقف عنده ، إلا أنّ هؤلاء قد ترى مصيرهم إما النفي أو الموت أو الزنازين، وليست الزنازين هي السجون الصغيرة، بل السجن الكبير وهو العالم بأكمله المقفل على ذاته . هؤلاء يعيشون قلق الوجود وفرح الموت.
من هنا يمكن القول أن من يحاولون القفز من البشرانية إلى الوجودية هم قلّة نادرة وذلك لعدم تمكن السواد الأعظم أن يثب إلى وجوده.
على ما تقدم فإن الخروج من المبنى إلى المعنى هو من الصعوبة بمكان نتيجة ضعف البشري أمام المغريات المادية التي تضع غشاوة على فكره قبل عينيه، إذا كان لديه ” فكر! ” لأن لا.. (المبنى) ولأن نعم (المعنى)” (ص 60).
من تمكن من الوصول إلى المعنى وهم قلة قليلة تراهم خرجوا من سطوة الله وابليس وسلكوا دروبهم الخاصة لتحقيق وجودهم . الوجود هو تحقيق الذات وليس تحقيق الرغبات . هنيئا لمن تمكن من تحقيق ذاته بوثوبه من العيش إلى الحياة، لأن هناك فرقا كبيرا بين أن نحيا وأن نعيش: “فالحقيقة هي داخلك” (ص 53).
كلنا عائشون ولكن من منا ولج باب الحياة؟ إذا أردنا ذلك علينا أن نتوجه صوب المعنى مزودين بأمرين: الحب أولا والصدق مع الذات ثانيا . فإذا توفر ذلك نكون قد نجحنا، وإن لم يتوفر، تكون اللعبة قد انتهت.
الكاتب حسن سرور
غلاف كتاب أرض الزئبق
مقاربة جريئة في ملامسة الذات الأخرى ، والتي هي عناق المعنى لا السرد الروائي…شكراً للكاتب حسن سرور…