الأدب تشكيلا حروفيا
إنتهيت من قراءة رواية ” محطات الشمال” للكاتبة اللبنانية المهاجرة ربى الصلح: ( دار الفارابي، بيروت، 2023: 120 ص. تقريبا). فوجدت أن شخصياتها، تعد بالمئات. ومعظم أحداثها، إنما تدور في “محطات” زمنية ومكانية مختلفة. غير أنها تعبر جميعها وبالكلية، عن عذابات النفس المهاجرة، مثل طيور اللقلاق، أو مثل طيور النورس، لا فرق.
“أعلن صوت المتحدث الإلكتروني في الباص إسم المحطة القدمة.
شعر سعد بقشعريرة تسري في أسلاك بدنه. إنه قريب من المنطقة الحمراء”.
لعلنا نقول إن ما يلفت متتبعها، كيف إستطاعت الأديبة الصاعدة، التمكن من كتابة، بل من تشكيل الأدب، تشكيلا حروفيا. بمعنى آخر، أنها إستطاعت أن تجعل من فصول الرواية، لوحات حروفية، بالغة الدقة والجمال.
“مرأى الخباز الألماني يقرص أمعاءه الفرغة. لم يأكل منذ الصباح. ولا يحمل في جيبه ثمن كعكة. يطرب لرؤية الأشياء المعروضة بعديد الأشكال والحجام، بما لذ وطاب.”
في الأصل، الحروفية، إنما هي مدرسة فنية، برع بها التشكيليون القدماء. ولكن سرعان ما إنتقلت إلى الفنون التشكيلية الحديثة، لأنها بدت معجبة لمحبي الفن التشكيلي المعاصر.
الأديبة ربى الصلح، إستطاعت أن تزيح الحروفية، والتشكيل الحروفي، عن العمل في فن الرسم، وأن تعيد إبداعات هذة المدرسة الفنية من جديد في فن الرواية والأدب. وهذا هو سرها في الأساس، الذي يرسم في الواقع، كل التشويقات، لقراءتها، بغير الأسلوب القديم للقراءة. لأن القارئ، يجد لذة في تتبع السطور، أينما وقعت عيناه من سطور الرواية.
“القناطر العربية حيث كانت تحب أن تلتقيه نجاة، ما عادت مفتوحة للملأ. بل أصبحت متاحة فقط للمصلين.”
إلى ذلك، وصفت الرواية بمنتهى الدقة، ما كان يدور في أزمنة الحروب وأزمنة التهجير على الناس، في محطات زمكانية، وقعت لعينها، فغدت لذلك شديدة الدقة والوصف. فكانت بتشكيلها الحروفي، تسمح للكاتبة بعرض كثير من الأحداث والمشاهد المأساوية. وكذلك بعرض ألوان المآزق والنزعات، التي يشارك فيها أبطالها، عن وعي منهم، أو عن غير وعي.
“لقد كانت لحظة ضعف. خفت أن أطلب وتخذلني. فتصرفت في الخفاء. خزى الله الشيطان.”
غلاف محطات الشمال للكاتبة ربى الصلح
ثمة مشاهد في الرواية تحبس الأنفاس. من حالات القلق الشديد التي يعيشها الأبطال، بسبب الخوف. وبسبب الرهاب. وبسبب القسوة. وبسبب الضعف. وربما بسبب الجوع والمرض والإنعزال والأسر. وقد ينشأ على ضفاف ذلك، هوامش للحب ولحالات العشق، وحالات الإرتكاس، في الإماكن الحبيسة عن الأنظار.
” محطة القطار الرئيسة، كانت كعادتها تعج بالناس والمسافرين. كل إلى وجهته. هو سيأخذ القطار إلى هاربوغ حيث منزل حميد. لمح في إحدى الزوايا مجموعة من الشبان يقومون بتوزيع المصاحف على المارة. وعلى مقربة منهم مجموعة أخرى يقومون بتوزيع الأناجيل.”
تشكل فصول رواية “محطات الشمال”، لوحات رائعة، تنقل إلينا ببلاغة مؤثرة، وبلغة حروفية مدهشة، معاناة الناس، وموتهم اليومي، على وقع الأهازيج والإحتفالات بالنصر. أو قل بالظفر. إذ لا نصر للأقوياء على الضعفاء، مهما أوغلوا في تعذيبهم. أو في لعق دمهم. أو في إمتصاص عروق تعبهم اليومي، بعد نهارات الكد والكدح والمشاق والتعب.
” فتون عذبة الصوت أيضا. قالت آنا حين أخبرها سعد وهي تراقصه.”
في تضاعيف الرواية،تبدو لنا الفتيات والعجائز، والأمهات والآباء والأبناء والأزواج والعشاق، والمكدون في ضروب ودروب الحياة، أنهم يتابعون الكارثة النهائية، على الرغم من كونها كارثة متجددة.
برأينا أن هذا النوع من الأدب، الذي يقرأ شاقوليا، كما يقرأ طردا أو عكسا، إنما يدل على براعة كاتبه. فالمعاني تذوب ذوبا في مقاطع قصيرة جدا، ولو إنها لا تسمح للتجدد الفكري أو العاطفي للشخصيات، من البروز. على الرغم من كونها مفاصل هامة في الرواية.
“أنا لا أسليهم. انا أرشدهم. عملي هو مرشدة سياحية. وهو عمل جميل.”
الكاتبة ربى الصلح، في مهجرها، لم تنس وطنها. لم تنس معاناة وطنها ولا معاناة أهلها، في بعلبك وفي بيروت وفي جميع الدارات التي نشأت فيها. ودبت على أدراجها. بل كانت وفية لماضيها، تماما كما كانت وفية لحاضرها، في المقلب الآخر من الوطن.
” إسمع يا سعد، إنني أباشر بمشروع بناء شركتي السياحية الخاصة. وأريدك أن تكون عونا لي.”
حين نفكر في الصلات التي يمكن أن تجمع بين مسارت نصوص متنائية في عوالم الادب، تبدو لنا التفاصيل الحياتية، حاملة لمضمرات جديرة بالتأمل. وهذا ما يقع لنا حين نقرأ النصوص السردية، في رواية الأديبة ربى الصلح. فثمة سباق لاهث في نصوصها، لحصار شلال الزمن المنهمر أما ما يتبقى فيها، فهو عبارة عن تحولات محكومة بسياق التكون الشخصي، وتطلعات خيالها اليافع.
“لم اعرف أن عشاءنا سيتحول إلى عشاء عمل منذ اللقاء الأول. إنك سيدة أعمال ورائعة الجمال. قال راشد مبتسما.”
هي إذا، بعض نسيج الروابط المتباعدة، بين أكوان فكرية وإبداعية، ولو أنها متباعدة في منشئها وفي الهويات.
ولعل التجاورات الأدبية والنقدية، هي التي تميز التشكيل الفني في الرواية. فتبدو الحروفية الأدبية، نصا بليغا. بل جرحا بليغا في عالم الأدب عندها. إنه النموذج الروائي المختلف، الذي يؤسس لرؤية مختلفة وإجتهادات زمكانية مأنوسة، تطمح إلى بلورة خطاب فكري يبلر خطابا فكريا، نجد في تضاعيف بناه، جميع إخفاقات النهضة العربية. وجميع إخفاقات النهضة اللبنانية، المتلازمة معها.
نصوص الرواية، تحيل إلى قيم إبداعية. وإلى معرفة سوسيولوجية وسياسية وإنسانية مشتركة. تبدأ بالقضية الفلسطينية، ثم هي لا تنتهي بالقضية العربية ولا بالقضية الوطنية اللبنانية. إنه إذا الأفق الذي يغلب الفكر والنقد والنضال والجهاد، كما الصداقة والحياة العائلية. حيث يتبدى الإنتماء من عدمه، أفق ربى الصلح الفسيح للكتابة.
تكرس رواية ربى الصلح: ” محطات الشمال”، الوظيفة المركزية لوضعية الإنسان المبتعد عن الوطن. الإنسان المغاد والمهاجر. الإنسان الساعي، لطلب الحياة وطلب الامان وطلب المعاش. وذلك في مدارات الرحيل والإقتلاع والإغتراب. فينشأ على ضفاف ذلك، لوحات تعبيرية في صيغة رواية نفسية لعالم مختبئ تحت أجنحة النفس الغائرة في الأعماق.. ولهذا نقع على كتابة نقيضة، تعيد صياغة المعاني بتشكيل حروفي. كتابة تعيد صياغة الضحايا، من منطلق الإيقاع النفسي الهارب من الإعلان.
إننا إذا، أمام بعض هذا الهوس الأدبي، الذي يريد أن يقول شيئا، لا يحب أن يقوله. إنه المعنى الذي ينقض المعنى، خشية الإنكشاف أمام وعورة السياسة. ووعورة الزمن السياسي.
يمكن أيضا المضي في قراءة محكيات ربى الصلح، لأنها، هي التي شكلت الخامة الأساسية للرواية الفصيحة بأحزاننا. بحيث تبدو النماذج المعبرة عن عن التجارب الشخصية، ليست سوى محطات نفسية في محطات الشمال التي هاجرت إليها، على براق مختلف، في سموات الهجرة والمدن والمحطات المختلفة.
فهل نجد عنوان ربى الصلح، أديبة واعدة، في الحياة وفي الكتابة، في تجديد طلب الحرية. بل في مبدأ الحرية التي لا تتنازل عنها، رغم الهجرات القسرية إلى عمق النفس، وإلى أقصى الأرض. تلك هي المسألة!
” الهاتف المحمول يرن في جيبه. الرقم يبدو غريبا. لعله من بلد آخر… حين وصل إلى الدرجة الأخيرة من الطاىرة، توقف. إستدار إلى الخلف. ونظر نحو المدينة… شيئ في داخله كان يهمس وداعا.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين