بين جدار وجسر ..
قصة قصيرة للكاتبة : جهينة العوّام
-×-×-×-×-
خلال شهورها التسعة وربما قبل ذلك بكثير كانت تحلم بطفل تترك لأجله الدنيا بما فيها راضية قانعة ،فرّغت له مساحات الروح لتستقبله رمشة رمشة، ابتكرت زينتها لاستقباله ، ومنهجا خاصا لتربيته بعيدا عن النظريات الرنانة وتجارب الاستنتساخ .ولم يشغلها وهو في حضنها اين ستأخذه الدروب ! فقلبها يخبرها انه لن تعوزه الموهبة ليبدع ، ولابد سيكون جديراً بالأفضل ،سواء كان مهندسا اوطبيبا او فنانا .
لم تشفع لها شهادتها الجامعية ،ولا سيرتها الشفافة ، ولاخبراتها أو لوحاتها ، باستقراء طريقة تعينها على الفهم . (ابنك يعاني من التوحد) كيف لمعجم الأمهات أن يترجم كلمة كهذه ؟كيف له أن يتفهمها ويقبلها ، وكل مرادفاتها تربك الروح وتشتتها ، مجرد تهجئة حروفها كفيلة بنسف كل ما سبقها من آمال وخلخلة كل ما سيأتي به الغيب ، بالرغم من تماسكها الهش الا ان ارتجاف ثيابها كان يفضح اغتراب لحظتها عن كل ما يحيط بها ، بدت كفزاعة هرمة تكالبت عليها الطيور حتى أتت على كل مواسمها البيضاء التي ادخرتها لليال سوداء ظنت انها ستظل بعيدة .
الأمومة حالة فريدة وصعبة تستهلك مخزونك الحقيقي ، وحتى الاحتياطي من العواطف والصبر والشجاعة، فكيف العمل مع مفردة طارئة ، تستدعي نفيرا عاماً بداخلك و كل ما يخطر في بالك للالتحاق بالخدمة ، تلك اللحظة كانت أعقد من أن تتبع بالشرح والتفسير والتغطية العلمية وأضعف من ورقة خريف آيلة للسقوط.
كيف ستلزم أحلامها وعاطفتها بمعطيات التشخيص الطبي ، كيف لها أن تحاور حواسها التي تنتظر كلماته وصوته وعطره و خطواته مدرسته ومراهقته وصور عرسه! نعم ..عرسه حتى انها عقدت العزم بينها وبين نفسها انها لن تقف في طريقه حتى ولواختارها من غير دينه ، أوأقل حلاوة منه.بدا التوقيت موحشاً وغاية في الكآبة .
على الحب وحده اتكلت في دربها الطويل ، الحب الذي لم يخذلها ولم تخذله .
أن يعاني طفلك( التوحد) فذلك امتحان آخر لانسانيتك وتوازنك وصبرك ، امتحان لرشاقتك في تقطيع شح الأيام وسطوة اليأس والقيل والقال لتوقد بها مدفأة الرجاء التي تكتب مذكرات امرأة فقدت ظلها في موسم الأشياء الملتبسة ،امرأة لم تبعث احتجاجا ولا ألحت في الدعاء والصلاة ، كانت مطراً لسعه ملح الأرض ، غيما عارفاً بحمولاته من الحياة ، أكسبها حصانة من الخذلان والخيبة ومن
مداخلات التعب ومفاوضات هدنة بين العلم والروح ، ومراسلات الجوار ، كان سهلاً لأنثى مثلها عرفت قبل زمن طويل ان سر الدار يكمن مابين جيم الجسر وجيم الجدار، وان أجمل الدُور تلك التي مدت جسور الحب والرحمة وهدمت جدران العتم و الخيبة .
انثى مثلها تتقن ايقاظ الفجر وتلوين الوحشة ولم تودع في بنك السنين الا الحب ،الحب الذي ربت به طفلاً على شاكلته ،ابتكرا أبجدية مقوزحة وغيرا معا تسريحة الأحلام ، صارت الجدران لوحات ، تشبث بها فصار الحب جسرا ليعبرا …
الكاتبة جهينة العوّام