“جسّ الطبيب لي نبضي”.. أين الطبيب؟
بقلم الكاتب د. بسّام بلّان
-×-×-×-×-
عندما صدح الفنان الراحل فهد بلاّن بأغنية “جسّ الطبيب لي نبضي”، عرّم جميع أطباء سورية ورفعوا رؤسهم عالياً، فقد أصبح لهم بهذه الأغنية “نشيد مهني”، إسوة بالنشيد الوطني للدول، يُعزف في غير مناسبة باستثناء الاجتماعات النقابية والحزبية طبعاً.
فالطبيب في سورية ظل لردحٍ من الزمن صمّام أمان الطبقة الوسطى في سورية وأبناؤه يصعدون أعلى درجات سلّم التعليم ويحملون أعلى الشهادات، فضلاً عن الوضع الاقتصادي الجيد والوضع الاجتماعي “السوبر”، تبعاً للاحترام المجتمعي الذي يحصل عليه. وقد عرفت سورية منذ استقلالها وحتى قبل بضعة سنين خلت، أسماء لأطباء ضربوا مثلاً في الجمع بين المهنية العالية والحس الإنساني السامي.
وفوق كل ذلك، حظي الطبيب السوري في كل مكان ذهب اليه بود وتقدير كبيرين نظراً لمهنيته العالية، وكتب كثيرون منهم اسماءهم على لوائح الشرف الدولية ونالوا أوسمة من الدرجة العالية ودروع تكريمية من قمة هرم الدول التي استقروا فيها، وصالوا وجالوا في أقسام أكبر وأهم المستشفيات العالمية بثقة وكبرياء بما حققوه وبما قدموه. ولو أردنا تعداد أسمائهم وإنجازاتهم لاحتجنا الى مجلدات.
أما اليوم، ونحن ننهي الربع الأول من اول قرون الألفية الثالثة، كيف يبدو حال أطباء سورية بعد حرب ضروس مستمرة أكلت أخضر بلدهم ويابسها، وتجار الحرب فيها أصبحوا سادتها وأسيادها؟.
تؤكد التقارير والارقام، أن سورية اليوم تعاني نقصاً حاداً في عدد الأطباء الموجودين فيها، وصل الى نسبة طبيب واحد فقط لكل 10 آلاف شخص. (هيئة الصحة في دبي حققت هدف طبيب لكل مواطن).
وحسب آخر المعطيات يوجد في سورية 500 طبيب تخدير فقط، بينما تحتاج فعلاً الى 1500، والأطباء الشباب من بين هؤلاء 30 طبيباً والبقية تتراوح أعمارهم ما بين 55- 65 سنة، أي انهم في سن التقاعد.
غالبية المستشفيات شبه انهارت، وهي تقدم خدماتها بالحد الأدنى بسبب عدم توافر الكادر وعدم توافر الأجهزة والتقنيات، وخروج الكثير من أجهزة التشخيص عن الخدمة بسبب الأعطال والعجز أو اهمال اصلاحها.
الطبيب السوري يقف حالياً في طابور الهجرة بانتظار دوره وفرصته، وبحسب تقرير للجنة الإنقاذ الدولية (IRC) أصدرته العام الماضي نحو 70 في المئة من العاملين في القطاع الصحي غادروا سوريا. وهذه النسبة تعني الآلاف.
وبحسب نقيب أطباء سورية الدكتور كمال عامر، فإن غالبية الاطباء السوريين يهاجرون الى الصومال، لأنه البلد الوحيد الذي يستقبل السوريين من دون شروط تعجيزية. وفي دراسة مقارنة، يبلغ متوسط دخل الطبيب في سورية حوالي 200 دولار، بينما يتقاضى في الصومال ما بين 1100-2000 دولار.
وكشف نقيب أطباء الأسنان في اللاذقية طارق عبد الله عن هجرة 70 في المئة من أطباء الأسنان الجدد، مرجعاً الأمر إلى ارتفاع تكاليف المهنة ومستلزماتها وانقطاع التيار الكهربائي والوضع الاقتصادي.
أما سبب هجرة الأطباء السوريين، فهو يتمحور حول البحث عن شروط حياة آدمية في أي مكان بعد أن قطعت الأزمات الحياتية كل السُبِل بالناس، وبحثاً عن الأمن والأمان.. فيما تختار فئة كبيرة منهم الهجرة هرباً من الخدمة الإلزامية، التي يعرف الطبيب متى يباشرها ولكن من المستحيل أن يعرف متى ينتهي منها، بكل ما تحمله الخدمة العسكرية من ظروف وعرة على كافة الصعد.
وفي حين كان أطباء سورية قبل ذلك يتنافسون للتخصص في مجالات دقيقة ومهمة، تتجه غالبيتهم الآن للتخصص في التجميل والشد والنفخ وتكبير “البلاطيم” والمؤخرات وحقن البوتكس والسيليكون. طبعاً هذا الاختصاص هو الأكثر رواجاً وجلباً للمال في “شرقنا الجميل الرومانسي الدافء”، لذلك يتجهون اليه ليجدوا فرصة عمل في بلاد الثروات التي يمتلك اهلها وساكنوها رفاهية الشد والمغط والحقن والتكبير والشفط والتصغير عدة مرات في العام الواحد ويدفعون الآلاف غير مبالين بها. وبالطبع سورية ليست استثناء من هذه القاعدة، حيث تضاعفت خلال الحرب أعداد مراكز وعيادات التجميل لمرات ولاتزال تعمل بكامل طاقتها، وإن كان ينغص عليها أحياناً انقطاع التيار الكهربائي المستمر.
ورأيي الشخصي في ظاهرة انتشار عيادات ومراكز التجميل وتضاعف أعدادها في سورية خلال السنوات القليلة الماضية، يعود لظن الكثيرين بأن البلاد بحاجة للتجميل وليس العلاج (؟!).. أو أنهم عجزوا عن العلاج فاتجهوا الى تجميل ما يمكن تجميله، وهذا الشيء ينطبق على السياسة والاقتصاد والخدمات والحياة بصورة عامة.
عندما كان الكادر الطبي في سورية يكاد يفيض عن الحاجة، لم يلفت الانتباه كثيراً هجرة البعض منهم لسنوات قليلة يُحسنون خلالها وضعهم المادي ويعودون بعد ذلك لإستئناف حياتهم بين أهلهم وناسهم.. أما اليوم في ظل هذا الانهيار الذي لحق المنظومة الصحية، فالأمر مختلف.
لذلك المرجو ممن يشعر بقرب رحيله عن هذه الحياة، أن يبلغ الرحل فهد بلاّن بأن لا طبيب في بلاده اليوم موجود ليجس نبضه، وإن كان مضطراً لهذه “الجسّة” سيجد طبيباً من بلده.. ولكن في أي مكان ما عدا بلده.
بســّــــام
د. بسام بلان
مقالة رائعة استاذ بسام. توجع القلوب ..وتعبر عن واقع اليم حزين محبط. فعلا ..مهما عمل أطباء التجميل في تحسين الصورة فسيكون غير نافعة ومؤقتة..نحن بأمس الحاجة لاطياء جراحة عامة وخاصة تقوم بتغيير وتبديل معظم أعضاء جسم المريض التالفة والمريضة والفاسدة…واستخدامها بأعضاء جديدة صحيحة قوية قادرة على النهوض بهذا المريض الذي أوشك على الموت. .. وتحييه من جديد ليصبح قويا متعافيا كما كان من قبل….سلمت اناملك ابا أصيل…ويسعد ايامك