المنحى الكلاسيكيّ العابر لفضاءات الأنا والوطن والشّعر في ديوان “روحٌ ساجدة” للشّاعرة ساجدة شحادة..
بقلم الناقدة والكاتبة : ملاك درويش*
-×-×-×-×-
لكم منّي تحيّاتٌ تجاور روحًا في كتاب، وتغامر بسجدة تحت فيء السّماء الثّامنة حيث يقبع إله الشّعر مستضيفًا أطيافًا من أنس القصيدة.. من على عتبةِ روحٍ ساجدة أتيْتُ لأستمع وإيّاكم إلى تراتيلَ سحريّةٍ عابقةٍ بنور المحبّة.. فأهلًا وسهلًا بكم..
أبلغني رسولُ الشّعر بمهمّة جديدة، فإذ بي أتلقّى بريده بابتسامةٍ دافئة ونظرةٍ ثاقبة أبت إلّا أن تفرغ تجلّيّاتِها على مرايا ديوان الشّاعرة “ساجدة شحادة” الموسوم بـ “روحٌ ساجدة”، وهو من سلسلةِ إصدارات منتدى شواطئ الأدب الّذي يبُحر عبر قبطانه الشّاعر “عصمت حسّان” بالشّعراء والأدباء إلى مرسى الرّؤية الإنسانيّة حيثُ تتلاقحُ الفكرةُ وأصداءَ الإبداع..
نعم، “روحٌ ساجدة”.. وأجدني عادةً عند قراءة أيّ نصٍّ أو كتابٍ أشرعُ إلى تبيان خفايا العنوان، غير أنّني سأتركه يتجلّى أمامكم على دفعات من دون أن نفقدَ لذّةَ التّأويل..
وتقتضي المعياريّةُ العلميّةُ في المقاربات الأدبيّة سواء أكانت نثريّةً أو شعريّةً، تحديدَ المنهجِ المتّبعِ لنجذّفَ بالنّصِّ نحو الاتّجاهِ الصّحيحِ بموضوعيّةٍ ومنهجيّةٍ علميّة، والمنهجُ الّذي سيرأسُ رحلتَنا اليومَ هو المنهجُ الأسلوبيّ الّذي يستلزم بدوره الإضاءةَ على غير مستوىً، ما يساعد في ولادة الرّؤية الشّعريّة المنشودة بعد مخاض معالجتها، مع لفت الانتباه إلى إمكانيّة الاستعانة بأدوات المنهجين النّفسيّ والاجتماعيّ لإقامة الحجّة على الرّؤى والتّأويلات.
أمّا عن الصّورة الشّعاعيّة –أي الإشكاليّة- الّـتي سنؤكّد فرضيّاتها بولادة الرّؤية، فتتمثّل في ما يلي: إلى أيّ مدى استطاعت الشّاعرة بناءَ فضائها الشّعريّ عبر الدّوائر الثّلاث: الأنا والشّعر، والوطن؟ وكيف ساعدَها التّيّار الكلاسيكيّ في بلورة هويّتها، وتاليًا رؤيتِها الشّعريّة؟ وماذا عن بعض البذور الحداثويّة الّتي بثّتها في غير موضع من ديوانها؟
إذا أردنا أن نؤطّرَ الفضاءَ الدّلاليّ للقصائد، فسنجدُها تتمحورُ حول دوائرَ ثلاث، وهي:
1- دائرة (الأنا): أنا الشّاعرةُ السّاجدةُ في معبدِ الحبّ والأمومة والكبرياء والحنين والشّوق والوفاء والعلم. ومن هنا، بإمكانِنا رصدَ حقلٍ دلاليّ لافتٍ لمختلف الكلمات المفاتيح الآنفة الذّكر، مثل: يوم ميلادي، أحبّه، الهوى، أستاذي، هيام، الغياب، غرام، ولدي، أمّي، أكابر، قلبي، عتاب، ذكراه، الوداد، طردت الوهم، العصماء، وغيرها…
2- دائرة (الشّعر): حيث تعتلي الشّاعرةُ دفّةَ الكلمات معلنةً ولادَتها مع القصيد، ومن الأمثلة على حقلها الدّلاليّ: حبر دواتي، حروف، كتبت الشّعر، القريض، كن شاعرًا، قوافيا، قصيدة، الوحي، ألحان بحرٍ كامل، البيان، شعري، الطّائي، مدحًا، كالخليل، لغة الضّاد، وغيرها…
3- دائرة الوطن: وكأنّني بها تشي بفردوسها المفقود بعد صدمة الميلاد –بحسب أوتروانك- الّـتي أحالت التّأريخَ الميلاديَّ أو الوجوديَّ نكبةً إنسانيّة، بل وخطيئةً لا تُغتفر، ومن الأمثلة على حقلها: نهر الموت، بعتم ضمائركم، نعش، شهيد، سقانا المرّ، ذا لبنان، شوك ونيران، لا الأوطان أوطان، كنت العروس، أراك ثكلى أيا بيروت، وغيرها…
وفي نظرةٍ خاطفةٍ إلى روحِ ساجدة عبرَ هذه المحطّات الثّلاث، لا يمكنُنا إلّا أن نقولَ إنّ الشّاعرةَ في ديوانها هذا تحاولَ اختزالَ عصارةَ تجربتِها العاطفيّةِ والعلميّةِ والشّعريّةِ والوطنيّة، وهي بذلك تؤكّدُ فرضيّةَ الأسلاف والمعاصرين في أنّ الشّعرَ هو شعورٌ وتجربةٌ إنسانيّةٌ خالصة بالدّرجة الأولى، قبل أن ندخلَ في مفاهيمِ النّظمِ واللّغة، والصّورة.
وقبل الانتقالِ إلى مستوىً آخر، لفت انتباهي في خضمِ المعالجةِ الدّلاليّةِ طغيانُ ظاهرة التّناصّ الضّمنيّ في غير قصيدة، حتى إنّ هناك بعض القصائد الّتي وردت فيها تناصّات عديدة، وأبيات جمعت أكثرَ من تناصّ واحد.. وقد تراوحت بين التّناصّ الدّينيّ والأدبيّ والأسطوريّ، ومن الأمثلة عليها:
“فكن قيسًا أكنْ بهواكَ ليلى وكنْ موسى أكنْ لعصاك يَمَّا”
“سأظلّ أرفع للفينيق قضيّتي وأكونُني عشتارُ كالملكات”
وقولها في أحد الأبيات:
“كأنّي أنا العنقاءُ أهبِطُ في غدي أهدُّ صروفَ الدّهرِ حينَ تُهدِّدُ”
وللتّناصّ دلالاتٌ عديدة، وبحسب يونغ فإنّ الأساطيرَ ذاتَ صلةٍ باللاوعي الجمعيّ للإنسان، إذ إنّ الأجيالَ تتوارثُها في لاوعيها، وتجسّدُها في الفنونِ والآداب، وغيرهما… وبالعودةِ إلى شاعرتِنا نجد أنّ لاوعيَها الجمعيّ هو مزيجٌ بينَ الثّقافةِ الدّينيّةِ والأدبيّةِ والأسطوريّة، وهذا إن دلّ على شيءٍ، فعلى شخصيّةِ شاعرةٍ مثقّفة، وهي بتناصّاتها هذه تحاولُ أن تبرزَ أهمَّ خصائصِ الشّاعريّةِ ألا وهي الثّقافة المتنوّعة، والمولّدة بدورها لبِنيةٍ ثقافيّةٍ جديدةٍ تبدعُ في فضائِها الخاصّ هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنّ تثبيتَ أفكارِنا كأوّليّةِ دفاعٍ في علم النّفس على الماضي بموروثاته، والزّمنِ اللّامتناهي بأساطيرِه وخرافاتِه، ما هي إلّا محاولةٌ لترميمِ الصّدعِ الّذي يعتري الأنا بفعل النّكبات الّتي تعرّضت إليها الهو، وبخاصّةٍ بعد افتقادِ الأنا الأعلى المتمثّل بالأب أوّلًا، والوطن ثانيًا؛ أي أنّها وسيلةُ تعويضٍ لردمِ فجوةٍ هائلةٍ من المعاناة والألم.
أضفُ إلى ما وردَ بعضَ الملاحظات الّتي تندرجُ ضمنَ المستويات الأخرى (إيقاعيّ ونحويّ وبلاغيّ):
أوّلًا: لقد اعتمدَتِ الشّاعرةُ النّظامَ الكلاسيكيَّ بكلّ ما فيه من بحور “خليل بن أحمد الفراهيدي”، ونظامِ الشّطرين، ووحدةِ الوزنِ والقافيةِ والرّوي، ما عدا قصيدين يتيمتين تفعيليّتن. وهذا يدلّ على الرّوحِ الكلاسيكيّةِ السّاجدةِ في محرابِ الدّيوان، والمؤدّيةِ لفرائض العبادة فيه. غير أنّ اللّافتَ هو التّركيزُ الكبيرُ على وزن بحر الكامل إلى الحدّ الّذي جعلها تتّخذه وزنًا وموضوعًا في القصيدة الموسومة بـ “صراطٌ كامل”، لتقولَ فيها:
“عاشَت على ألحانِ بحرٍ كامل منها صراطٌ قدْ يصونُ تمايلي”
وفي هذه القصيدةِ تصفُ أمَّها الّتي تعدُّها منتهى الكمال، حاكَت ذاك من منظورها الشّعريّ إيقاعًا ودلالات، ما جعلَ الإيقاعَ النّفسيَّ ينسابُ إلى الصّورة الذّهنيّة للأمّ، فراحَت تتدفّقُ كسمفونيّةٍ راقية على إيقاعِ بحرٍ يستمدُّ الكمالَ من بيانها. ويُسجَّلُ هذا الجمعُ بين الإيقاعِ والموضوعِ للشّاعرةِ على أنّه إلماحةٌ شعريّةٌ مغناج أضفَت قيمةً جماليّةً للمنتج الأدبيّ.
ثانيًا: بعد مقاربة الدّيوان بلاغيًّا، تلفتُ ظاهرةُ بعضِ العناوين أسماعَ اليراعِ النّقديّ، ذلك أنّ هناك عنايةً إنشائيّةً مسحَت على رأسها. ولاسيّما عناية الأمر والاستفهام، ومن أبرز هذه العناوين: اِرحل، كنُ شاعرًا، كيف أمضي؟، أين صرنا؟…
حتّى إنّ هناك قصيدةً بُنيت بأكملِها على الأسلوبِ الإنشائيّ الطّلبيّ بين أمر ونداء واستفهام، وهي قصيدةُ “عتاب”، ولهذا ارتباطٌ بالموضوعِ الّذي يظهر من العنوان القائمِ بدورِهِ على حالةٍ من عدم التّوازن الشّعوريّ الّتي تستدعي سَكراتٍ إنشائيّةً.
أمّا عن الانتشارِ الواسع للإنشاء سواء أكان على مستوى العنوان أو القصيدة، فلذلك ارتباطٌ مباشر باللّغةِ الخطابيّةِ البارزةِ في الكتاب، وهذا بدهيٌّ في قصائدَ تنتشي بخمرةِ الكلاسيكيّةِ مهما حاولَت تجاوزَها في تعدّدِ الموضوعات أو غياب المطلع الطّلليّ أو النّفس الملحميّ. فالشّاعرة من روّاد المدرسةِ الكلاسيكيّة، وتجسّدُها تجسيدًا خيرَ تجسيدٍ في الأسلوب الإنشائي القائم على الخطاب المباشر.
ثالثُا: لفتني التّكرارُ اللّفظيُّ للقصيدةِ الّذي عقدَ قِرانَهُ مع الدّيوان، فتمَّ النّصيبُ في غيرِ قصيدة، ومن الأمثلة عليه: الحبّ، قلبي، وطد، الشّعر… وهي الّـتي ساعدت بشكلٍ كبيرٍ في تأطير محاورِ الدّيوان، لِما شكّلته من حقولٍ معجميّة ودلاليّة عائدة إليها –أي المحاور- غير أنّها في الوقت عينه نحت ببعض القصائد نحو التّكرار غير المحبّب أو الرّتيب. في أغلب الأحايين ساهمت في إغناءِ الإيقاع الدّخليّ فيها، لكنّ تكرارَها الكبيرَ في القصيدةِ عينِها أضعفَ جانبًا من أهمِّ ركائز اللّغة، إذًا كان بإمكانها أن تستعين بالتّرادف.
في ضوء ما ورد، ديوانُ “روح ساجدة” ينهلُ من معين الكلاسيكيّةِ بكلّ ما فيها من ارتباطٍ بالموروث الأدبيّ، من دون أن نغفلَ بعضَ البذورِ الحداثويّةِ الّـتي ظهرَت على مستوى الأسطورةِ الّـتي تعدُّ من إحدى أدوات الشّاعر الحديث، غير أنّها استلّتها بمضمونها الكلاسيكيّ الأصيل محافظةً بذلك على هُويّتِها الشّعريّة.
لقد مثّلت لنا الشّاعرةُ بدءًا من عنوانها، كيف أنّ الرّوحَ ساجدةٌ في معبدِ الحبّ وكنيستِه، وأخذَتْ توزّع حلواه على الشّعر والأمّ والولد والوطن، فقد انطلقت من المحبّة رؤيّة شعريّة خالدة، واتّخذتها نافذةً على مختلف الظّواهر الإنسانيّة الأخرى الّتي تعدّ صورًا لها على مرايا الوجود.
أهنّئُ الشّاعرةَ على تجربتِها الشّعريّةِ الّتي تنمُّ عن ثقافة متينةٍ بالشّعر العربيّ الكلاسيكيّ، ترقى بها إلى مصاف الشّعراء الّذين يمتلكون مقوّماتٍ هامّةً في بناءِ هويّتهم الشّعريّة إزاء فوضى الألقاب اليوم.
*( هذه الدراسة النقدية قرأتها الكاتبة ملاك درويش خلال أمسية نظمها منتدى شواطئ الأدب مؤخرا في بشامون الضيعه )
الناقدة ملاك درويش تقرأ في روح ساجدة خلال أمسية لمنتدى شواطئ الأدب في بشامون الضيعه
جميل جدا