تشظي الإنسانيَّة
في “حبيبتي مريم”
للرِّوائيَّة الدكتورة هدى عيد
بين فاعليَّة الذَّات و”اللا وطن – الجثة”
-×-×-×-
*الدكتورة الأميرة منى رسلان
-×-×-×-×
يعودُ اختلاف الطبيعة أكانت الروحيَّة منها أو الأخلاقيَّة أو النفسيَّة أو تلك العقليَّة لدى الانسان، إلى التنظيمِ الذَّاتي الَّذي يرتضيهِ بحريَّته، أو ذاك ممَّا يكون مُرغماً على السير في معارجِهِ وِفاقاً لنظامِهِ. وقد تختبرُ الشخصيَّةُ أشدَّ عناصر التأزُّم ويعتريها القلقُ وتوثِّرُ فيها عوامل التوتُّر، فتسعى من خلالِ جودها إلى إخضاعِ هذا التوتُّر في صِراعِها مع المحيطِ الخارجيّ لتفهم مصلحَة هذا الخارج؛ وتالياً وعي أشكالِ العقابِ كافَّة التي حلَّت بها لتصلِ إلى المُصالحةِ مع المحيطِ / العالم الخارجي، ولتتحوَّل “الذاتُ” إلى فاهمة ومدركة لمقاييسِ “الموضوع”، كما يُعبِّر الناقد الأدبي المعاصر”الدُّكتور وجيه فانوس”.
كلَّما أمعنَ النصُّ الأدبيُّ في الدُّخولِ إلى أعماقِ ذاتيَّهِ، وأماطَ اللِّثام عن خصوصيَّتهِ، كلَّما توصَّل إلى أعماقِ الوجودِ الإنسانيِّ ليُلامس مُحيطَهُ الدفين، مُحفِّزاً – عبرَ فاعليَّةِ المُشاركةِ – قيماً مجتمعيَّةً وثقافيَّةً وانسانيَّةً مُشتركة، وبذا يكونُ للنّصِّ عبر فِعلِ الإرسالِ الأدبيِّ دورٌ تأثيري في نفوسِ مُتلقِّيه أو الباحثين فيه.
هُنا، ينفتحُ مفهومُ الحريَّةُ، كما يُعرِّفُها “باروخ إسبينوزا”، في الخلوِّ من القسر أيّ الاجبار. “يقول: “هذا الشيء يُدعى حُرَّاً إذا كان يوجدُ وفقاً لضرورةِ ماهيتِهِ وحدها، ويُعين ذاتهُ بذاتِ الفِعل”. وبالتالي فإنَّ الارادةَ هي أساس وجوهر الانسان وجوهر العالم.
بناءً على ما تقدَّم، فإنَّ تصوُّرَ (الإرادة) لا يقومُ على معرفةِ عيانيَّة للعالمِ الموضوعيِّ، وإنَّما ينبثقُ من أعماقِ الشعورِ المباشرِ للفردِ؛ ا، فهي جوهر الوجود الإنسانيِّ، وهي (الشيء في ذاتِه)، وهي الجوهر الخالد غير القابل للفناءِ، وهي أساسُ مبدأ الحياة.
وفي هذا المقام، فإنَّ أيَّ فعلٍ شامل للبحث عن الجديد فهماً وموضوعاً في الطبيعةِ الإنسانيَّةِ أو الفلسفيَّةِ أو الشخصيَّةِ، في النصِّ الأدبيِّ، عبر المُمارسةِ الجماليَّةِ، إنَّما يكمُنُ في البُنيةِ الفلسفيَّةِ العميقةِ التَّي تقومُ عليها هذه المُمارسةُ، خاصةً “عندما تكون فِعلاً عقلياً، فِعلَ مُصالحة للذَّاتِ مع الواقعِ، أو حتَّى فِعل انتفاضةٍ على هذا الواقع.
وعليه، يتجلَّى سعيُ الشخصيَّة إلى المُصالحةِ مع الخارجِ، والَّتي تجري عادةً على حسابِ قتلِ التوتُّرِ الدَّاخليّ، باعتمادِ وسيلةِ فهم من الدَّاخل / الجوَّانيِّ إلى الخارج / البرَّانيِّ. والسعي هُنَا يكونُ على مُستوى الطبيعةِ الروحيَّةِ عند الأشخاص أو المجموعاتِ، كما يُحدِّثنا تاريخُ الأمم من خلال تمظهر الشخصيَّات في سردِ الحكاياتِ البطوليَّةِ، أو حتَّى تلك الأسطوريَّةِ عند اليونانيين والرومانيين وسواهما، إذ كانت تميلُ الشخصيَّةُ إلى الفعلِ الانسجاميِّ والتوفيقيِّ أكثر منه إلى الفِعل التوتري المُستمر. فلا مندوحة في العملِ الأدبيِّ من وجودِ نهايةٍ تُرضي “القانون” الخارجيّ، وليس “القانون” الدَّاخليّ؛ كما يفصِّل الدُّكتور فانوس.
بيد أنَّ هذه الممارسةَ الَّتي تسعى لتكون فِعلأ عقليّاً بامتيازٍ، وفِعلَ مُمارسةٍ لقبولِ راهنيَّةِ الواقِعِ والابتعادِ عن التغيير، وعن الثورة؛ تتواطأُ مع ما تفرِضُهُ فلسفةُ الانسجامِ مع الخارجِ، على الذَّاتِ ، ما يُفضي بالشخصيَّةِ إلى لجمِ تطلُّعاتِها، فتُمارسُ كبتاً مُقنَّعاً لأحزانِها وأفراحِها وقلقِها، وجوهرِ أحاسيسها وكينونةِ وجودِها، بتغييبِ كل ما يتعلَّق بحقوقِها، إلغاءً لخصوصيَّتها الذَّاتيَّة في جهدٍ منها لفهمٍ أشمل لذاتها ولما يحيطُ بها.
وتظهرُ لنا شخصيّاتٌ أخرى، على خلافِ تلك الشخصيَّة المكبوتةِ؛ شخصيَّاتٌ / بطلةٌ تنمازُ بفاعليتها الذَّاتيَّة _ والَّتي تتحدَّى من خِلالها الذوات الفرديَّةِ وبعض الأخلاقياتِ، وقيمِ نشوءِ الوطن، بتقاليدِها وعاداتِها ومُعتقداتِها وأنماطِها وسلوكيَّاتِها، كما يبرز مع الرِّوائيَّةُ “الدّكتورة هدى عيد” .. .
غلاف رواية حبيبتي مريم للروائية د. هدى عيد
فرواية “هدى عيد” “حبيبتي مريم”، لا تنساق بِفِعلِ الخواصِ الخارجيَّةِ وانعكاسِها على حياةِ الفردِ أو الأُسرةِ أو الجماعةِ، لا بل تراها تُشير بالوقائعِ الحقيقيَّةِ إلى “اِفتضاحِ” مكامِنِ الرشوة، وواقعِ العيشِ الأليم، مُنشدة “الحقيقة” والتغيير. تنتفِضُ “حبيبتي مريم” على الخوفِ والألمِ، مختبرةً – غصباً عنها – مفاعيل “الارهاب” والتهديد التي يتمُّ استقاطها عليها، و”اللا استقرار” جرَّاء استفزازِها لسُلطة “اللا دولة”، “اللا قانون”، واللا شرعية”، كما يرد في الرواية.
بناءً عليه، تُطالعنا في المتنُ الحِكائي لــ “حبيبتي مريم”، مشهديَّاتٌ متوالياتٌ لـ “سلطةِ اللا وطن” والَّتي تضمِرُ خُبثها. فإنَّ نشرُ تحقيقاتِ الصُحفية مريم حول سوءِ الاستخدامِ الوظيفيِّ والاحتيالات الَّتي يُمارسها المُتلطون وراء “سُلطة اللا قانون”، المُتسلِّحون بنبرةِ “الترهيبِ والوعيدِ” و”قوَّة المال والنفوذ والسلاح”، قد استشعرت خطراً يُداهمها موثِّقاً فضائحها الماليَّة والقانونيَّة وسواها الكثير، الأمرُ الَّذي يدفعُها إلى تفريغِ حِقدها “الدمويّ” في الجسدِ الأنثوي_ المُتمثِّل بـ مريم، شهيدة الرأيّ والعمل الحُرّ.
غير أنَّ هذا التكشُّف وتعرية الواقع وافتضاح أمر “المُستزلمين”، قد سطَّرتها مريم في متن تحقيقاتها الصحافية، ومُسجلةً الشُبُهات بالوقائعِ والاثباتاتِ الدَّامغةِ، حيث تتفشى ظواهر من مثل: الرُشى والتسلُّط والالتفاف على القوانينِ الإداريَّةِ، وسوء التنظيمِ والمُحاسبة الوظيفي، ممَّا قد “ضرب” القطاعات المؤسساتيَّة والخدماتيَّة كافَّة في الوطن، على الرَّغم من التفاوت في المسؤوليات الإداريَّة والرُتب، و”كسَّر” تالياً هيبة الدولة والأمن، و”خلخل” بنائيَّة العلاقة السوية ما بين المواطن والدولة لبناء مواطنة صالحة، وقوَّض الأُسس الأُسريَّة، وانتهك الجسد الأنثوي (تهديداً واغتصاباً وقتلاً)، في سبيٍّ مُمنهجِ لمنظومَةِ الأعرافِ والقيمِ الأخلاقيَّةِ التي تحكُم علاقة الأفراد المُجتمعيَّة ببعضهم، ساحِقاً في الوقت ذاتِهِ قيمَ الحقِّ والعدالةِ والقانون، والحُكم الرشيد.
وكما تُبيَّن لنا “حبيبتي مريم” فإنَّ الإرادة تكمن باتِّخاذها لقرار المواجهة مع مَن يُمثِّلون “السلطة”. وبالتالي إذاً ، في هذا المقام يكون الإنسان “حرّاً” في إرادتِه وخياراته.
ولعلَّهُ من المُجدي القول، إنَّ المفاعيلَ القياسيَّةِ الَّتي يتطرَّق إليها الباحثُ أو القارئُ الفاعل في البحثِ عن القيمِ الجماليَّةِ في أيِّ نصِّ (شعريّ كان أم نثريّ – روائيِّ- قصَّة- أقصوصةً -أدب وجيز..)، إنَّما تظهرُ من خلالِ تحفيزِ طاقةِ العقلِ على التحليلِ والتوقُّعِ و”الكشف”.
ههُنا يفيضُ البناءُ الحكائيِّ في “حبيبتي مريم” بأجزائِهِ الأربعة، بصوتِ راوٍ واحد من دون سواه من الرواة / الأصوات العائلية الأربعة (حكيم – ابن مريم ووحيدها؛ غريب جوَّال – الزوج؛ مريم – الأم وبطلة الرواية؛ جودي – ابنة مريم). ويروي الرَّاوي هنا بـ “ضمير المُتكلِّم”، أي أنَّهُ حاضرٌ في الدَّاخل، ويتدخَّلُ في تقنيةِ تركيبِ الأحداث.ِ فمع الرَّاويِ تقومُ المسافةُ الفنيَّة اللازمة لاستقلاليَّةِ العمل الأدبيِّ – الرِّواية، ولاستقلاليَّة الشخصيَّاتِ الحيَّة القادرةِ على الاِيهام بحقيقةِ الأحداثِ، على الرُّغم من غيابِ “مريم” (حضوراً، وجثة)؛ وفي الوقتِ عينهِ يُشكِّل الرُّواةُ الأربعة “شخصيَّةَ الظِل” حيثُما ترتحِلُ الرِّوائيَّة هدى عيد، كالمُخرِج السينمائيِّ الَّذي لا نراهُ إلاَّ في أثره.
بينما تشي فاعليَّةُ تعدُديَّةِ الرُّواة – الواحد، بفِعلٍ تشارُكيِّ مع البطلةِ. إذ تنبي العلاقاتُ في ما بينهم وتولِّد دلالاتها، وليصبحوا بمعنى آخر أبطالاً مُشاركين، فاعلين في سردِ حكاية عيش مريم الوجوديّ، مُسطِّرين بذلك جريان الأحداثِ الرِّوائيَّةِ في “حبيبتي مريم”، ممَّا تتعالقُ أو تتعارض سويَّاً، أو هي تتناسق أو تتأزم، أو لربّما تقرُب فتبتعد رويداً رويداً، في مواجهةٍ مع مرجعياتٍ “سلطويَّةٍ”- صِداميَّةٍ – قمعيَّةٍ، مُغتصبةٍ وقاتلةٍ في آنٍ معاً، لا تُجيدُ الحِوارَ في ما يخصُ مصالحها الشخصيَّة، إذ عمِلت على احداثِ شرخٍ عاموديٍّ وأُفقيٍّ في مؤسَّساتِ الدولةِ، منقضَّةً بذا على مظاهِرِ هيبةِ الحُكمِ بالعدل.
“مريمُ الحبيبةُ”، مارست فاعليَّةَ وُجودِها الحُرّ في مفاصلِ حياتِها، واِنساقت هذه الحريَّةُ على اتِّخاذها لمسارِ صعب وطويل من المُواجهاتِ المُتكرِّرةِ مع الحياةِ. لقد دأبت البطلةُ “مريم” على التركيزِ والصدِّ طلباً لتحقيقِ العدلِ المُجتمعيِّ إنسانيَّاً و وطنيَّاً؛ وحتمية المواجهةُ تلك لم تكُن مع الأخ في الوطن، لا بل مع تكتُّلاتٍ كُبرى (اقتصاديَّة/ ماليَّة/ سياسيَّة/ حزبيَّة/ دينيَّة/ اجتماعيَّة…) تتقصَّدُ تغييب السلطة، والتستُّرِ على “التشيُّؤِ الأخلاقيِّ – المافياوي”، والذي يُصاحِبُ اهتراءً إداريَّاً وماليَّاً واقتصاديَّاً، وضعضعةً في منظومةِ القيمِ الاجتماعيَّةِ والأخلاقيَّةِ وما يُشاكلها من مُثل عُليا، تحكُم علاقة الأفراد بعضهم البعض.
في خضمِّ هذه البيئةِ المُلتبسة، “المسعورة” بوهمِ السُّلطةِ والجشع (ماديَّاً ومعنويَّاً وسلطويَّاً)، تسطعُ شخصيَّةُ “مريم” الإنسانة المُثقفة، الصحفيَّةُ المُتمرِّسة في القسمِ السياسيِّ والأقتصاديِّ في إحدى صُحف الوطن؛ لتظهر في الرِّوايةِ غيرَ اِنهزاميَّةٍ من خلال إجرائِها لتحقيقاتٍ مُوثَّقة بالأدلَّة والبراهين حول عمل “المافيات”. وتبدو مريم بشخصيَّتها المُنطلقةِ، باحثةً عن الوجودِ والهُويَّة الذَّاتيَّة وكأنَّ السرد / القصّ الحكائيِّ بذاتِهِ، يندفِعُ عبرها إلى عيشِ الحُريَّاتِ الفرديَّة، و”العدالةِ المُجتمعيةِ في وطنِ الرسالة والمواطنة”، انطلاقاً من رسوخ الحُرِّيَةِ في ذاتِهَا الفاعلةِ لإحداثِ تغييرٍ ما في نمطِ الحُكمِ – أي قيمِ العدالة والمساواة، وايمانها القوي الفعلي بقوَّة ومصداقيَّة تحقيقاتها الصحفيَّة، في تعريةِ “الأزلام” مهما علت رُتبهم الوظيفيَّةِ، وتصدِّيها للضغوطاتِ والارهابِ السلطويِّ، الماديِّ مِنهُ والمعنويِّ، على الصُعُد كافة، (السياسيَّة والاجتماعيَّة والاستزلاميَّة)، في مواجهةِ القضبانِ الحديديَّة، أو وتصدِّيها لسلطويَّةٍ تستلُّ مِن الترهيبِ استمراريّةً لنهجِها التهديميِّ.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ النصَّ الحكائيِّ في رواية “حبيبتي مريم” يستندُ إلى حضورِ “المريم” في رِحابِ الرِّوايةِ، زمنيَّاً ومكانيَّاً، أسلوبيَّاً وسرديَّاً وحواريَّاً، من خلالِ تواترِ الأحداثِ الدِّراميَّةِ المُتصاعدة والمُفاجئةِ وصولاً إلى “الفجيعةِ” الكُبرى – اغتصابٌ فقتل، وهلوساتٌ أُسريَّة (شكُّ الزوج بحبيبته) و”وشوشة” من الطبيبِ المُعاين للقتيلة “أن اغتصبها قُبيل مقتلها”، تستدعي من الزوج البحث في آلية لـ “نبش قبر حبيبتهِ مريم الفارغ من الجثة_المفاجأة / الحدث الصادم؛ ولتستحيل الجثَّة “المسروقة” وطناً مسروقاً، أو مكان “اللا – جثة” هو اللا – مكان الوطن، أو “ضياع “الجثة” بما يمثِّلُه من ضياعٍ لمقوِّماتِ الوطنِ الفعليِّ المُستباح، معضلةً أخلاقيَّةً بادئِ ذِي بدء، ومن ثمَّ تدميراً للإنسانيَّةِ، مولِداً المزيدَ من الشحناتِ العاطفيَّة “الهجينة” (من رُهاب ووسواس قهري، وخللٍ على مستوى الوظائف الفكريَّة – المنطقيَّة والنفسيَّة والأداء الحركي”، إلى جانب تعاظُم الشعور بالغُبن، هذا ناهيكَ عن التفكُّكِ والضياعِ..)؛ جميعها أزمات متلاحقة تغور في عميقِ النَّفسِ البشريَّةِ ، فتنتشي بكآبتها وحُزنِها العائليّ، كما الوطنيّ، الَّذي يُلامس حدَّ التيه والتشتُّتِ وضياع الأحلامِ بتحقيق الديمقراطيَّةِ والعدالةِ الإنسانيَّةِ.
غير أنَّ المسار المُتصاعد للأحداثِ في “حبيبتي مريم”، يتجاوز ببُعده الدِّراميِّ الشخصيّ – الذَّاتيّ، كي يُرسِّم نكوصاً في تجربة جودي، ابنة مريم، الَّتي تشغلُ حيَّز الرَّاوي الرَّابع، بعد أن أغنت تجرُبتها في الزواج المُختلط، بحُبها العابر للطوائِفِ والمذاهِبِ في لبنان؛ ولا يلبثُ أن يسقط زوجها الحبيب مُضرَّجاً بدمائِهِ المجبولةِ بعرقِ الكدِّ والتعبِ، جرَّاء نسف مرفأ بيروت في فضاءٍ اِنعزاليٍّ، سلبيٍّ – لا تواصليِّ. فـ جودي الَّتي تستشعرُ غيظاً وقهراً واذلالاً بعدما فقدت نكهةَ الحياة وديناميتها، تنسحِبُ مُعاناتها على جميعِ العائلات الملكومة، فتعبَّرُ عن ذواتِها المُتفجِّعةِ صُراخاً ونحيباً واِعتراضاً على عدالة “منشودةٍ” في وطنٍ مُسجَّى.
إذ تُطالعنا بنائيَّةُ الرِّوايةِ، بزمنٍ سرديٍّ يتداخلُ في ما بينه. زمنٌ مسوَّرٌ باِرهاصاتٍ ماضويَّةٍ، يكتسبُ الابن “حكيم بن غريب جوَّال” ملامحه التائهة، مُختبراً حاضره الآنيِّ بتواترٍ تكراريٍّ متواصلٍ، وأزمتهِ مع الغربة اللندنيَّة، توهُّماً ووحدة؛ وهو المُشلَّع نفسيَّاً ما بين زمن عيشهِ اللندني والبيروتي، بما تُشكِّلهُ خاصيَّة الحنين إلى الوطن في تقنية استرجاعيَّة، توقاً إلى اللُحمةِ العائليَّةِ وما تُشيعه من جوِّ طمأنينةٍ أُسريَّةٍ على وجهِ العموم، والتفيُّء بدفءٍ أموميِّ على وجهِ الخصوص.
في حين يتواءمُ تساؤل فلاديمير بارتول، الذي تُسطِّر الرِّوايةُ قوله، في مطلعِ القسمِ الثانيّ منها: “أين يبدأُ الوهمُ في الحياةِ، وأين تنتهي الحقيقة ؟ – مع اعتمالِ شعورِ الخيبةِ – الفجيعةِ لدى “غريب جوَّال”، والد حكيم وجودي، وحبيب مريم. يواجه غريب موت حبيبته، وتفجُّعهِ العشقيّ اِنسانيّاً وأُسريَّاً، ينفجِرُ مع الحدث الدِّراميِّ الأكثر تأزُّماً بعد أن يتمخَّض المسار الحِكائيِّ عن نكبةٍ تُضافُ إلى انتكاسةِ الأُسرة بخبر قتل مريم -الأم: لقد “اغتصب مريم، قُبيل قتلها!؟ فيقع الحبيب ما بين فكاكِ فجيعتهِ الكُبرى: واقعةُ الاعتداء عليها اغتصاباً؛ مُذكَّرات مريم؛ نبش القبر، وضياع الجثة – مسكن النفس والطمأنينة في الوطن. ويختبر الحبيب جُملةً من المُعادلات المقلوبة: هل ما يعيشُهً من شكٍّ وتأزُّمات، نسجاً تخيليّاً، أم واقعاً دلاليَّاً على البُنيةِ الدَّاخليَّةِ المُهتزةِ نفسيَّاً وذاتياً، أو أنَّه على صعيد نمط حركيَّة المُجتمع اللبناني، والبُنية المُهترئة في “اللا – وطن” حيث “اللا – آمان”؟ هل ينبشُ القبر بحثاً عن تأريخٍ ما لفضاءاتِ “وطن الجثة”؟
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ حضورَ مريم في سرديتها الذَّاتيَّةِ الحكائيَّةِ تشعُّ، بحيث تتمدَّدُ وجوديَّاً (على اختلافِ الأزمنةِ والأمكنةِ) على امتدادِ مسارِ الأحداثِ الرِّوائيَّةِ الدّراميَّةِ – الفجيعة، وتنتشرُ خارجها على امتدادِ “جُثَّة_ اللا وطن”، في تلازمٍ عجيب، يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهُما، وفي مواجهةٍ حتميَّةٍ لا مفرَّ منها، تطالُ في ما تطاله من ذلك المنظور المُتمثِّل بـ “المرجعيَّاتِ الأخلاقيَّةِ” – المُجتمعيَّةِ والدينيَّةِ والقيميَّةِ، وتلك الَّتي تطأ غياهب “اللا – ضمير الجمعي”، مع ما يكشِفُهُ السَّردُ من تعارُضٍ مِفصليٍّ ما بين مشهديَّةِ مروياتِ “السُلطةِ” المواربةِ بالتكاذُبِ، ومرويَّة العائلة: إمَّا عبر تفعيلِ الحضورِ كمرجعيَّةٍ فعليَّةٍ واحدةٍ والمُتمثِّلة بالدولة – الأُم (قانوناً، وأمناً واحتضاناً، بعدلٍ ورعايةٍ)؛ وإمَّا عبر تسويغِ “اِعتلالِ السُّلطةِ” ومن يختفي بظلِّها، أي “الغياب المُقنَّع” بأوجُهِهِ الظلاميَّةِ (عسسيَّاً، وأمنيَّاً المرتهنةِ بغائيَّةٍ وأنانيَّةٍ وذاتيَّةٍ وديكتاتوريَّةِ مافياويَّة في وطن هجين – “اللا وطن”).
تُبيِّن الذِّكرياتُ الشاخصةُ في رواية “حبيبتي مريم” للدكتورة هدى عيد، والَّتي تسلٍكُ في البناء الروائي المنحى الاستذكاريِّ – الاسترجاعيِّ أو المرجعيّ أو العكسيِّ المُموَّه، أنَّها تسعى إلى التخفيف من حِدَّة الحدث الدِّرامي أحياناً، ولربَّما جاءت لطمأنةِ الشخصيَّاتِ المفجوعَةِ بتشظيها، والساعية لتجسيد فاعليتها الوجوديَّة من اِنعدام الفاعليَّةِ، ولكنَّها سوف تتقاطعُ حُكماً مع الزَّمنِ بعالمِهِ السُفليِّ، والَّذي يتضمَّنُ الراهنيَّةَ والتوهُّم والموات، بواقعيتهِ الحقيقيَّةِ الفجَّة: الاِنسحاقُ الإنسانيُّ قهقرةً في عيشِ “اللا – وطن – الجثة” في جسدِ “المريم”، كطيفٍ من سحرٍ مُوجعٍ، أليمٍ، باِنسيابٍ حركيٍّ وتعبيريٍّ وترميزيٍّ لا نهائيّ.
*الدكتورة الأميرة منى رسلان
أستاذة النقد الأدبيّ المُعاصر والمنهجيَّة في كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة
الباحثة الأميرة د. منى رسلان مع الروائية د. هدى عيد خلال فعاليات معرص بيروت للكتاب العربي والرولي 64