الكُـــرســــــــي.. أو المقعد؟
بقلم الكاتب : د. بسّام بلّان
-×-×-×-
كلما استمعت لقصيدة الشاعر الراحل أحمد رامي “إنت الحب” بصوت الراحلة أم كلثوم، لاترتسم أمامي إلاّ صورة زعيم عربي، وهو يقف بكل تواضع أمام كرسيّه ويغني له المقطع الذي يقول:
“تجري دموعي وانت هاجرني… ولا ناسيني ولا فاكرني
وعمري ما اشكي من حبك…. مهما غرامك لوعني
لكن أغير م اللي يحبك…. ويصون هواك أكتر مني”
الكرسي شيء مقدس عند الغالبية العظمى من الناس. وقلائل أولئك الزاهدون فيه.
أول لعبة جماعية تعلمها أبناء جيلنا وربما أجيال أخرى لاحقة له، هي لعبة الكراسي، التي كنا نلعبها مع أبناء الجيران وفي حصص الترفيه في المدرسة. وتقوم هذه اللعبة على مبدأ الفوز بالكرسي، حيث يتنافس عدد أكبر من الأطفال للجلوس على عدد أقل من الكراسي على إيقاع صوت معيَّن يحدد بداية الانطلاقة والتوقف، وفي كلِّ مرةٍ يخرج طفلٌ بعد آخر حتى لا يبقى إلاّ واحد فقط هو من يفوز، ويُصفق له جميع الحضور، وتنتشي نفس الفائز بأنه عرف سر اللعبة القائمة على أساس (ادفش من حولك لتفوز).
أنواع الكراسي كثيرة.. و لكن من سوء الحظ، وربما من شغف الناس بالكراسي، أنهم يخلطون خلطاً كبيراً بين معنى ومفهوم الكرسي، ومعنى ومفهوم المقعد. مع أن الاختلاف بينهما جوهري، وهما كالخطين المستقيمين لا يلتقيان.
في صفوف المدارس نجلس على مقاعد وليس على كراسي. بينما الكرسي الوحيد في قاعة الصف هو للأستاذ.
وفي الحافلات أو الطائرات أو القطارات، نجلس على المقاعد. والكرسي الوحيد هو لقائد الطائرة أو سائق الحافلة أوالقطار.
وفي الحدائق والمتنزهات يجلس الأصدقاء أو العشاق على مقعد.. وليس على كرسي.
إذاً، المقعد مخصص لطلب العلم أو انتظار الوصول.. أو لاجتماع حميمي بين أصدقاء أو أحباء.
لاحظوا أن كل الشعراء وصفوا لحظاتهم وتغنوا بها، وهم على المقعد. واذا صادف أن تحدثوا عن الكرسي، فغالباً للذم والقدح به. ربما بإستثناء المتنبي، الذي ضيّع فلسفته وعلمه وبلاغته وحكمته وهو يتذلل للكرسي. ومات ولم يحصل عليه.
أشهر كرسي، هو الكرسي الرسولي في الفاتيكان. وأشهر كرسيّ عرفه الناس في القرن العشرين، هو كرسي برشلونه، الذي صممه المهندس المعماري لودفينغ ميز فان. فقد كلفت الحكومة الألمانية هذا المهندس عام 1929 بتصميم جناحها في معرض برشلونة الدولي.. وكان الكرسي من بين ما صممه. وبحسب “فان” اعتمد في تصميمه على فلسفة تلاقي الصلابة والأصالة جنباً الى جنب، مستلهماً إياها من فكرة الفيلسوف الألماني “كانط”، القائمة على التوازن بين الروح والعقل. وبعد أن سرق كرسي برشلونة الأنظار آنذاك، قال “فان” إن تصميم ناطحة سحاب أسهل بكثير من تصميم كرسي.
وأعتقد أن أشهر كرسي في القرن الواحد والعشرين، هو الكرسي الرئاسي المتحرك، الذي إمتطاه الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
بروتوكولياً، يخضع وضع ومكان الكرسي في القاعات والغرف، لقواعد صارمة. ومنذ دخولك لقاعة رسمية ستعرف من مكان الكرسي وشكله، أن مَنْ سيشغله رجل ذو قيمة. أما المقاعد فغالباً لا تثير الاهتمام. فالكرسي حالة انفرادية. فيما المقعد هو حالة جماعية واجتماعية وتشاركية أيضاً.
أول من بدأ في صناعة الديكتاتور هو صانع الكراسي.. حيث وضع فيها عصارة الفن والحرفة وأغلى المواد، بحيث جعل من يجلس عليه يشعر بالعظمة. ومن يجالسه يغذون فيه هذا الاحساس.
و ثاني صانع للديكتاتور، هو من أطلق التوصيفات على هذه الكراسي، مثل الكرسي الملكي والكرسي الرئاسي والكرسي الامبراطوري.. إلخ.
الكراسي الثمينة، تأخذ قيمتها من المواد الأولية المصنوعة منها، وربما النادرة أيضاً. فلا أعتقد أن هناك كرسياً أغلى من ذلك المصنوع من خشب الصندل، أو عاج الفيل. والأشخاص الذين يميزون أنفسهم ويجاهرون بإقتناءمثل هذه الكراسي والجلوس عليها، يعرفون تمام المعرفة أن قطع خشب أشجار الصندل جريمة موصوفة دولياً. وقتل الفيلة لأخذ عاجها ايضاً جريمة موصوفة دولياً. ومع ذلك يفاخرون بجلوسهم على كرسي مصنوع من جريمة، دون أن يرف لهم جفن.
الديكتاتور، لا يكترث للطريق التي ستوصله للكرسي. ولا يكترث للثمن الذي سيبقيه عليها، ولو كانت جثث الملايين و جماجمهم.
وبنظرة تأملية لما يدور حولنا، نجد أن أثمن الكراسي تلك المصنوعة من أكبر الجرائم. و الإنسانية بحاجة ماسة لتصحيح هذا المفهوم.
المجتمعات التي تحترم نفسها وتاريخها وقيمها، عليها المبادرة حالاً لتلغي من قواميسها توصيفات كالكرسي الرئاسي أو الملكي…الخ. واستبدالها بالمقاعد الرئاسية أو الملكية. وغير ذلك سيظل الكرسي وصانعه ومزخرفه صانعاً للظلم والاستبداد وبالتالي للجريمة.
لنتذكرأن الأنبياء بكل ما يملكون، لم يُعرف عن أحدهم أنه اتخذ لنفسه كرسياً. بل كانوا ينشرون رسائلهم في مجالس خالية تماماً من الكراسي.
الكاتب د. بسام بلان