بوح ما بعد الخمسين: ” حبيباتي السريّات…”
بقلم الكاتب د. بسّام بلّان
-×-×-×-×-
أجمل خطوات الدخول الى عام جيد من عمرك، هو الدخول بإعتراف منك بسر ربما بقي سنين طويلة طي الكتمان ولا أحد يعرفه غيرك.. وبذلك تكون قد افرغت شيئاً من أحمالك.. وتشاركت مع من تحب شيئاً جديداً لايعرفونه عنك.
وفي لحظةِ شجاعةٍ نادرةٍ قررتُ أن أدخل عامي الثالث والخمسين بالحديث عن حبيباتي السريّات.
نعم أعترف أن في حياتي الكثير من الحبيبات السريّات.. وأعترف أيضاً أن الحبيبة السريّة هي التي تبقى الى جانبك بأي ظرف تمر به.. فبمجرد قبولها التام، وهي بكل قواها العقلية والنفسية بلقب “حبيبة سريّة”، هذا يعني أنها أبدت كامل الاستعداد لإحتوائك مهما كانت الظروف، متخلية عن كل الشكليات والأطر التي تصر عليها “الحبيبة العلنية”، وخاصة لجهة الإشهار.
الحبيبة السريّة، نوع من العلاقات الآسرة، الخالية من أي مطالب أو أعباء.. لايهما سوى التشارك الروحاني والوجداني معك في السرّاء والضرّاء.
الحبيبة السريّة، لايهمها إن كنت ضعيفاً أو قوياً .. غنياً أو فقيراً.. من شريحة الباشاوات أو من شريحة المرابعين البسطاء. ما يهمها هو شيء واحد: أن تكون معك وتكون معها، وكفى.
الحبيبة السريّة، لاتكترث لعمرك إن كنت طفلاً أو شاباً أو كهلاً أو عجوزاً.. بالنسبة إليها كل هذه التصنيفات شكلية وحسب.
………
…………..
سأعترف أن أول حبيبة قابلتها وأخذت صفة السريّة في حياتي، كانت صورة بالأبيض والأسود لأبي وأمي وهما في بداية شبابها، وتم التقاطها على هيئة “كرت” بعد أيام من زواجهما، وكان عمري حينذاك بضعة أعوام.. فمنذ أن وقعت عينيّ عليها راودتها على نفسها، وأفصحت لها بأنني مستعد لخطفها من ألبوم الصور الذي كانت فيه.. وتواطأت معي على ذلك.. أمسكت يدها وأخذتها الى عالمي الصغير.
هذه الحبيبة بكيت أمامها طويلاً وكثيراً في أشد ساعات حزني.. وضحكت امامها ضحكات هستيرية في أكثر لحظات فرحي.
أجمل اللقاءات وأصدقها مع هذه الحبيبة السريّة، كانت تجري عندما أمر بحالة غضب من أحد والديّ ولا أتمكن من قول كل ما أريده في وجههما.. فألجأ اليها وأحدثها بكل شيء.. وهي تصغي إليّ بكل حواسها.. وتترك لي الحبل على الغارب لقول كل شيء دون مقاطعة أو تدخل.. وعندما أنهي كلامي، تبدأ بالتعليق على ما قلته وتوضح لي أين أخطأت وأين أصبت.. وغالباً ما تنتهي جلستنا بابتسامة أوضحكة.. وينتهي كل شيء.
والشيء نفسه يتكرر عندما أكون فرحاً بشيء قدمه إليّ أحد والديّ.. ولا أستطيع ان أعبّر لهما عن شكري وامتناني.. فأطلب لقاءها، وهي تلبي طلبي بسرعة وأبوح لها بما في صدري.. نفرح معاً ونعيش لحظات سعادة غامرة.. وينصرف كل منا الى مكانه.
مرّت السنين.. وأصبحت أباً .. ولاتزال لهذه الحبيبة مكانة في نفسي لم ولن تتزعزع.
……..
…………
الحبيبة السرّيّة الأخرى في حياتي، تلك الورقة التي كنت أنتزعها من بين صفحات كتاب أقرأه، وغالباً ماتحوي قصيدة شعرية أو بعضاً منها، أو قولاً مأثوراً.. أو نصاً أعجبني، وقررت حفظه عن ظهر قلب. فأقوم بنزعها من الكتاب وأشكلها على هيئة طائرة ورقية صغيرة وأبدأ برميها أمامي والركض خلفها.. وعندما ألتقطها من جديد أفتحها وأعيد قراءة ما أردت حفظه منها، ثم أشكلها مرة أخرى.. وأُعيد رميها وإلتقاطها وقراءتها من جديد، وتطول رحلتي معها ربما لساعات.. رحلة تدخل الى نفسي متعة ما بعدها، نعيش خلالها حباً جارفاً… لا أحد سوانا يعرف قيمته وحجمه.
واليوم تقدمت بي السنين، وعايشت انتقال البشرية من القرن العشرين الى القرن الذي يليه.. ولا أزال أبادل هذه الحبيبة كل الوفاء.. وهي ترد عليّ التحية بتحية أكبر وأجمل.. وأمارس معها كل طقوس الحب بعيداً عن العيون.
…….
…………
حبيبتي السريّة الثالثة، رائحة عطر آنستي أيام مرحلة “الحضانة” ما قبل المدرسة.. حيث كان يجمعني معها موعد يومي، مسافته الصفر عندما كانت تلتقطني يدها وتحملني الى الباص.. وأذكر أنني كنت أتحايل كثيراً لأبقى جالساً الى جانبها وأظل طوال الطريق الى جانب حبيبتي.و. حتى اليوم أحتفظ بذاكرتي “الشميّة” بهذه الحبيبة وشذاها والأيام التي قضيتاها معاً، رغم رائحة مئات العطور التي مرّت في حياتي وأنا أدخل عامي الثالث والخمسين.
…….
………….
ربطة شعر بلون زهري، حبيبة أخرى من حبيباتي السرّيات.. تعرفت عليها في طفولتي عندما زارتنا فتاة صغيرة كانت من عمري تقريباً.. جاءت إلينا رفقة أمها (قريبة جدتي) .. أمضيتا عندنا يوماً وليلة وهن في طريقهن للمطار للمغادرة الى بلد قالوا إنه بعيد جداً ويسمى فنزويلا.. لعبنا معاً طيلة الوقت.. وفي الأثناء سقطت عن رأسها ربطة شعرها من دون أن تشعر.. إلتقطتها خلسة وإحتفظت بها.. وبين الحين والآخر كنت أجلس معها لتحدثني عن شعر صاحبتها، وتذكرني بكلماتها وضحكاتنا الطفولية وتلك الفترة القصيرة المستقطعة التي أمضيناها معاً.
وشاءت الأقدار أن تعود صاحبتها من سفرها حاملة إبنها طفلها، وقد أصبحنا حينها بعمر الشباب.. زارتنا وسلمنا على بعض، وحاولنا تذكر كيف اتلقينا وبماذا لعبنا.. ولم أبح لها بقصة ربطة شعرها، التي من المؤكد أنها لم تنتبه ابداً انها ضاعت منها.
……
…………
“الوفاء”.. واحدة من حبيباتي السريّات. هذه الحبيبة التي تسكنني مثل روحي.. واعترف أنها من أكثر حبيباتي السريّات والعلنيات اللواتي عذبن قلبي.. بسببها تلقيت عشرات الصفعات، وبسببها وصلت في بعض الحالات الى درجات تقارب درجة الإذلال.. ومع ذلك لازلت وفيّاً لها ولن أتنازل عنها مهما كان الثمن.
…..
…………
“المسؤولية”.. حبيبة سرّية أخرى من حبيباتي. عرفتها قبل أن أعرف معناها، وعشت معها وعاشت معي قبل أنْ أقرأ حرفاً واحداً عنها. حمّلتني في حياتي الكثير من الأعباء، وأدخلتني في حروب وصراعات كثيرة، داخلية وخارجية. ومع ذلك لم أستطع للحظة الإبتعاد عنها او العيش بدونها، بعدما تشربتني وتشربتها حتى الثمالة.
…….
…………
وفي حياتي حبيبات سرّيات أخريات، لو استفضت في الحديث عنهن سأنفق عشرات الصفحات.. والمجال لا يتسع لكل هذه الأحاديث. كما في حياتي حبيبات أخريات علنيات.. إذا كُتب لي أن أشهد مثل هذا اليوم في العام المقبل، قد أتجرأ وأتحدث عنهن.
الكاتب د. بسّام بلّان