” حكايات العمر “
بقلم الكاتبة :جهينة علي العوام
-×-×-×-×-×-
لم تعرف ما نسبة الحياة في هذا الوجود ،كما لم تعرف الزمن الحقيقي الذي يحسب على قيودها.
وباعتقادها انه كي تكتب سيرة ذاتية، ينبغي أن يتوافر لديك الكثير من الألقاب والشهادات، أو ربما نياشين ومناصب، ربما يجب أن يتمتع اسمك برنين برَاق في البورصة العالمية، أو تصدّرت صورك عناوين صحف عربية ، بأقل تقدير، و في احتمال ضئيل لطفرة جينية ،فالأجدى لك الانحدار من سلالة يحمل دمها اللون الأزرق، أو تكون هوليودي النسب والملامح .لكن وبما أنها لم تمتلك مؤهلاً يؤخذ على محمل الايزو، ولا حتى جنسية تمنحها ميزات انسان !
ببساطة اختارت في وقت سابق إجابة ( لستُ أياً مما سبق ) .
الا انها اليوم أمام تشكيلة واسعة من الموت ،خيارات تفوق بكثير تلك التي تُباهي بها هوليود أو بوليود على شباك تذاكرها، وأكثر تطرفاً من كل ما عهدناه .يخيل اليها أن نيرون وهتلر قادرين على التقدم بتعويض عن ما لحق بهما من أذى نفسي ،باتت هي نفسها قادرة على منح البراءة لماري انطوانيت، وتعذر سذاجتها وتطعن بميزان العدالة السابق واللاحق.
كانت الحروب فيما مضى وردية ونبيلة قياساً باليوم ،الانترنيت يحاصرك يشدك من رموشك يصلبك في ساحة المعركة يعيد تمثيل الجريمة أمامك ألف مرة ليقتلك ألف مرة، يتفنن بابتكار أبعاد جديدة تستفز كل حواسك ،تجد نفسك شريكاً محرضاً متواطئاً في كل ما حدث ويحدث
لا تستطيع تمييز خصمك ،تشهد كل يوماً سقوطاً مدوياً للإنسان ،أنت في الوسط متروك لخوفك وقهرك وظلمك وبولك تتكسر وتحترق وتعدم طواعية ذلك الجزء الذي ما زالت تُبكيه أغنية للشام فلا ينعدم ، تنتظر ،وتنتظر موتاً على هيئة أمل.
قررتْ أخيراً كتابة سيرتها ،ليس على النحو الذي تتوقعه كقارئ ،ولا على ما تخطه في رواياتها ..هنا في هذه السيرة تريد الكتابة لنفسها ليس إلا.
أعداد وأسماء:
العدد 6 كان ترتيبها ضمن أبناء العائلة ،أي لا بد أن تنادي أمها ،ثلاثة أو أربعة أسماء لاخوتها قبل أن تعرف أنها المعنية . من هنا وبتأثير المسلسلات، والأفلام المصرية والهندية وأفلام الكارتون ، توصلتْ الى سيناريو يرضيها ،فأقنعت نفسها باستحالة الانتماء الى هذا المكان وانها على الأرجح ضحية خطأ، ارتكب عمداً في المشفى. لكن سرعان ما ألغت هذا الاحتمال لأن نساء القرية يلدن في بيوتهن،لهذا فعلى الأغلب أن مؤامرة دبرتها ساحرة ما على ذمة أفلام الرسوم المتحركة، أوخطفتها عصابة هندية ، ثم تركتها أمام باب العائلة ويوماً ما سيجدها أهلها الحقيقيين وتعود الى الفيلا في غاردن سيتي أو الى قصر يشابه تاج محل .
تضحك الآن وهي تقرأ سيرتها ،تضحك من غير قلق ، فالأمر لا يحتاج الى نظريات في علم النفس ، ولا جلسات علاج ودعم نفسي . ببساطه كلنا نتمنى حياة مختلفة، ننال فيها قسطاً أكبر من الاهتمام والحب ويداً مشدودة كوتد نربط اليها ، تمنحنا الأمان وتقينا
الانكسار ، وأذن تصغي الى همومنا، وصوت يذكرنا بأننا أفضل ماحدث في هذا العالم،وقلبٌ يقبل سقطاتنا قبل حكمتنا. لأننا جميعا في هذا الشرق المنكوب مطوبون للجوع
انه المورث الجيني الحقيقي الذي يميزنا .
محو أمية :
عاشت في قرية جنوبية 7 سنوات كانت ولا زالت خزان مياهها الجوفية ،الوادي وسنين الخير والحب ،البيوت التي تتقاسمها النباتات والحيوانات ،وحضن جدتها الأوسع من( ديزني لاند )،ومدن الملاهي مع انها كانت تقص ذات الحكاية الا ان حضنها كان يتسع على الدوام لأحفادها الثمانية .
تذكر حين قدم أحد الجيران الى بيتهم غاضباً وهو يشتكيها لأمها، لأنها قطفت مع صديقتيها الحمص الأخضر من حقله، لكن جدتها وقفت كجبل ، ومنعته من رفع صوته في حضرتها .
لم ينبس الرجل بكلمة وغادر، فأم جدعان أخت رجال لها احترام وتقدير في كل القرى ،لا يسبقها أحد في فرح ولا ترح. عنوان الكرم والشجاعة ،لها في ذاكرة الناس حكايات كثيرة ،وهي تلوح الأفعى و تضربها بالأرض ثم تدق رأسها أم جدعان التي تذبح الذبائح وتقطعها ، و هي التي ولدت أغلب نساء القرية على يديها. دخلت أم جدعان الغرفة وطلبت من حفيدتها أن تمد يدها ، ففعلت الصغيرة ثم مدت الجدة لسانها ولحست باطن الكف، كان ملح الحمص الأخضر لا يزال عالقاً في يدها.
لم تنطق الجدة بحرف ، اكتفت بنظرة عتب ، مزقت قلب الصغيرة المندهشة من سلوك جدتها حاولت أن تشرح لها ما حدث ، وأنها أصلاً لا تحب الحمص الأخضر ، وظنت أن الأمر مجرد لعبة ،تقطف عشبا مع صديقتيها وتهرب .تلك الليلة نامت الصغيرة دون حكاية .
كانت تفكر كيف اكتشفت جدتها أمرها وظنت لاحقاً أن ثمة صلة تربطها ب المحقق كونان.
انتقلت العائلة الى ريف دمشق .انقطع حبل السرة الى الأبد ،و توزعت الصغيرة مع اخوتها فوق العفش ، في شاحنة كبيرة بعدما دست في جيب بنطالها حفنة من تراب القرية ، بالاضافة الى خمس أحجار صغيرة ، ولكن قضت جميعها على بلاط الحمام بينما كانت أمها تغسل وصرخت بها
_جلبتي معك تراب وحصى من الضيعه ، خايفي ما تلاقي هون؟.
لن تفهم أمها أن تلك الحجارة الصغيرة ،كانت تذكاراً من صديقاتها اللاتي تركتهن هناك مع ذكريات الوادي ،ودَور الحليب وخميس االبيضات ،شقائق النعمان والجلوس على لوح دّراسة القمح في بيدر عمها حمد، حتى تلك الأفعى التي باغتتها بين مساكب الفول في آخر الكرم ، بدت لها من الذكريات الجميلة قياساً بما جرى معها في الشهر الأول من المدرسة التي انتقلت اليها في المدينة الجديدة .
كان الاستاذ (سعدو) يطلب الى التلاميذ في القرية ، البقاء في وضعية الجلوس أثناء القراءة ،من دون الوقوف . حسب رأيه وقوف أحد الطلاب يشتت انتباه البقية .هذا كان السبب وراء أول توبيخ يوجه اليها من معلمة الصف الثالث الابتدائي، فصارت الطالبة الجديدة القادمة من الأدغال ،والتي تفتقد قواعد آداب القراءة مادة دسمة للسخرية ، التي ازدادت بعد أن استدعتها المديرة ، وطلبت منها احضار ولي أمرها، لاستكمال أوراقها. فعادت للمنزل وانتظرت حتى رافقتها والدتها مع الأوراق المطلوبة الى الادارة . بدورها عادت الصغيرة الى الباحة لأن جرس الفرصة قد رن. هذه المرة كانت السخرية أشد مرارة ، إذ لم تعد محصورة ببنات الصف الثالث، بل انتشرت كمرض الحصبة في المدرسة كلها ، كل البنات يتهامسن ويشرن اليها ولا يتوقفن عن الغمز والضحك !
في المساء زارتهم احدى الجارات، وحالما شاهدتها ضحكت ساخرة وقالت:
-كيف تذهبين الى المدرسة بكندرة بلاستك؟هذا عيب ولا يجوز أنتم الآن تسكنون في المدينة!.
أخيراً عَرفتْ السبب ، فعندما أرسلتها المديرة الى المنزل خلال الدوام ، وجدتها فرصةً لترتاح من الخفافة الصينية الضيقة ، فلبست كندرتها البلاستيكية الذهبية .
تباً لهذة المدينة الوقحة التي تتدخل بالأقدام أيضاً ، الكندرة أو الشحاطة البلاستك كانت الفتيات يتباهين بألوانها في القرية ، و لم يكن ليكترث أحد حتى بالرقع التي تزينها ، وان وصلت الى ربطها و اصلاحها بشريط حديد ناعم .
المدرسة الجديدة باتت مصدراً للخوف والرعب ،أما بالنسبة لطالبات الصف الثالث ، فثمة قرار غير معلن بعدم مخالطتها ،أو الاقتراب منها. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد زار فريق تربوي المدرسة للتفتيش على النظافة ،الأظافر، والشعر، وهنا كانت الضربة القاضية، فحيث أن المياه في( جرمانا) كلسية ،هذا يعني بالضرورة أنه لا يمكن الاستحمام معتمدا على صابون الجيش ولا أن تغسل ملابسك ببرش( زهر الزيتون )، فلن تحصل على رغوة ولو بعد عشرة أعوام . وبالتأكيد كان الشامبو ليس من ضمن القائمة الطويلة للسلع الأهم حسب موازنة أمها .المهم أن الاستحمام بالصابون ، وتغيير المياه كانا السبب في ظهور قشرة برأسها ، قرأتها احدى المفتشات المقنزعات انها من فصيلة (الصيبان).
فأخرجتها من الصف وطلبتْ منها الوقوف بعيداً، هذه المرة صارت منبوذة من الجميع طالبات وكادر تدريسي وحتى من نفسها.
هذه المرة أيضاً كان البكاء أكثر مرارة وقهراً وحرقة .كانت تريد شيئاً واحداً ،وهو العودة الى القرية وتقبيل حجارتها السوداء ،وكل الجيران بما فيهم الرجل الذي اتهمها بسرقة الحمص، وحتى الأفعى التي كانت تتربص بها آخر الكرم.
لم تكترث والدتها ببكائها ، وشكواها في المرات السابقة، أو بالأصح لم يكن لديها الوقت لذلك
هي أيضاً كانت تعاني مع المدينة الجديدة ، وتحاول امتصاص قهرها ، والفوارق التي باتت تهدد أسرتها.
في اليوم التالي رافقتها أمها الى المستوصف ،وأخذت ورقة مصدقة من الدكتور بأن الأبيض الذي يزين شعر ابنتها المجعد الطويل ليس الا قشرة غير معدية.
وجه جدتها تقمص ملامح أمها التي كانت تقاتل بشراسة في مكتب مديرة المدرسة ،يبدو أنها اكتفت من كل السخافات التي تعرضتْ لها ابنتها ، ولن تقبل تشكيكا بنظافتها أو أخلاق وذكاء أبنائها في هذه المدينة .
معلمة الصف أخبرت التلاميذ بشكل مقتضب أن صديقتهم تعاني من قشرة في الرأس ، ومن قبيل المجاملة المقتضبة طلبت من الفتيات معاملتها بلطف
تراجع المستوى الدراسي للصغيرة ، فلأول مرة في حياتها أخذت 4 من عشرة في مادة الاملاء ،ودفترها الذي كان مضرب للمثل عند الاستاذ (سعدو) فجأة صار يشبه دفتر (أبو نواف السمان)، وبات الى المدرسةكابوسا حقيقيا ،خصوصاً عندما خرجتْ للفرصة في اليوم التالي ،ووجدت طالبات من الصف الرابع يتجولن في الباحة وعلى ظهورهن ورقة معلقة بدبوس مكتوب عليها بخط واضح وكبير( أنا كسلانه) . وكانت معلمتهن تطل برأسها كل دقيقتين لتتأكد ان المعاقبات يتجولن بين الطالبات ولم يدرن ظهرهن للحائط كي يخفين عقوبتهن ، لم يكن دارجاً تلك الأيام مصطلح التنمر مع انه كان حاضرا منذ بدء الخليقة .
في اليوم التالي ولأول مرة تبتسم المعلمة (أميرة) في وجهها ، وهي تخبرها علامة الاملاء 10 من 10 أثنت على التقدم اللافت بابتسامة سريعة ونظرة حنونة وقالت انها تريد أن تظل على نفس المستوى.
شكرت الصغيرة ربها ورجته من كل قلبها أن يبعد عنها معلمة الصف الرابع ، مع أن خوفها من ابتكار معلمتها لعقوبة كتلك التي شاهدتها في الباحة، كان السبب الحقيقي والمباشر للعلامة الجديدة.
حدائق معلّقة:
الغرباء في الغرفة المجاورة سرقوا نومها تلك الليلة ، وهي تخترع الحجج لتسترق السمع وتنظر اليهم ، كان لها من العمر 10 سنوات وقفت خلف الستارة الدانتيل وهي تراقب ضحكاتهم ،بشرتهم البيضاء تنانيرهم القصيرة أقراطهم الطويلة ،لغتهم المنقطة بالابتسامات . جلسوا على الأرض قبل أن يدعوهم أحد هكذا من دون (أهلا وسهلا… تفضلوا… مافي شي من واجبكن… تفضلوا …حرام عليكم ان وفرتوا… الأكل على قد المحبه…… تفضلوا)
اختصروا كل تلك المقدمات البببغاوية ،لم يستعملوا الشوكة ولا السكين و جلسوا على الأرض . بدورها تعبت من الوقوف وقرفصت تتابع مراقبتهم من شقوق الستارة ،لم تنزعج منهم وهم يأكلون البطاطا المقلية التي تحبها كثيراً ،ولكن أمها تقدمها في المناسبات فقط لأنها تستهلك الكثير من الزيت بالاضافة الى ثمانية أفواه ستبتلع أكثر من 10 كيلو بطاطا بسهولة.
مضت ساعات وهي تراقب الأوربيين الذين قدموا برفقة قريب لها فقامت أمها بدعوتهم للغداء حيث حضر كامل الوفد الذي طار عقله بأطباق القش وطلبوا من والدتها ارتداء اللباس التقليدي للسويداء مع الطربوش حتى يلتقطوا صور لها مع أطباق وصحون وصواني القش
شاهدت الصغيرة الفلاشات تلمع وتشرقط ،لأول مرة بات للقش الذي تصنعه أمها مكانة جليلة ومهيبة حتى والدها الذي كان يكره تلك الأطباق صار يحملها باحترام .
لقد استعادت في ذلك اليوم جمالها وبهاءها واسعاد والدها مريم فخر الدين بكامل ألقها وغنجها
خجلت تلك الصغيرة من أمها في ذلك اليوم فقط تأملت وجهها اكتشفت جمالها وظل في قلبها سؤال يجرح حواسها ..ماذا لو لم يمر هؤلاء الغرباء بهم ؟
غفت الصغيرة الى أن تعثرت بقدمها احدى الشقراوات التي تساعد في اعادة الصحون الى المطبخ فقرفصت قبالتها وحاولت الاطمئنان على قدمها
لأول مرة شاهدت عينان خضروان قبالتها ،كانت الأوربية تتكلم وتبتسم وهي تمسك يدها
اعتقدت أن العيون الخضراء كانت السبب في اكتشاف أمها، فكل الجيران في الحارة يقولون أن يد أمها خضراء.
تلك الليلة لم تساعد اختاها الكبيرتان أمها في الجلي بل انضمتا الى اخويهما للاحتفال بالضيوف فاستغلت الصغيرة الفرصة ودخلت الى المطبخ
كانت تلف نفسها ببطانية صغيرة تحسباً ل(قتلة مرتبه) سألت والدتها التي تابعت تنظيف الصحون:
_أمي ألم تخبريني أن الله واحد في كل الكون، وأن الناس سواسية، وأن تعاليمه واحده لكل البشر ألم تخبريني أن الله موجود في كل زمان ومكان ؟هذا يعني انهم يعرفون الله مثلنا تماما
هزت الأم برأسها موافقة .فتابعت الصغيرة:
_لماذا يسمح لهم بارتداء تنانير قصيرة ويبدو أن ربهم متفهم ورحيم لا يستبدل أقراطهم الطويلة بجمرتين ، لماذا يقبلون غرباء عنهم يسافرون دون أهلهم يرقصون ويغنون يحضنون بعضهم ينامون في غرفة واحدة ،منذ قدومهم والكل سعيد ومسرور ،كلكم قلتم عنهم أنهم طيبون وبسطاء لا يجاملون ولا يكذبون ويحترمون كل ما حولهم حتى النباتات والحيوانات التي يمرون بها ،أمي اذا كان الأمر كذلك فأنا أريد مقايضة الهي بالههم.
قبل أن تتم جملتها غطت نفسها جيدا لأنها متأكدة أن والدتها ستضربها ، لكن الأم لم ترد ولم تحرك ساكناً ظلت صامتة ، ربما كانت في قرارة نفسها تريد مبادلة الهها أيضاً !
أدوار وأقنعة:
ثمة أدوار لا تعاش الا طازجة كالأمومة ،لا تقبل شراكة ولا كفالة ولا وكالة . بعد تسعة أشهر من زواجها كان على الصغيرة اتقان دورين معاً،أن تكون زوجة وأماً و هي لم تبلغ العشرين من العمر. بدت المهمة غاية في الصعوبة ،لقد أدت فيما مضى دور الابنة والأخت وهما دوران ثانويان مع هامش ضئيل للارتجال أما دور التلميذة فثمة كتيب لتعليمات النجاة وأسئلة مكررة استعانت بها وعطلات طويلة. لكن الآن فأمامها دورين لبطولة كاملة دون كتيب ارشادات ولا حتى اجازات ولا مجال للارتجال أو حتى الاستعانة بأسئلة الدورات السابقة.
تذكر أن طفلتاها علمتاها الكثير واستنزفتا كل مخزوناتها الجوفية واحتياطي (بكرا أحلى) لقنتاها دروساً أصعب بكثير من سنينها الثلاثة في كلية الحقوق.كانتا تنظران اليها كلتاهما خائفتان من أي خلل في العبور.
الأمومة ليست فكرة ولا رحم ولا دعوات وصلوات وصبر ، الأمومة حسب تعريفها :
جسر للعبور الى النور ،أي اهتزاز غير محسوب أو خلل سيسقطان معاً .
سواء اتخذتي قرار الانجاب أو حدث الأمر سهواً أو خطأً من اللحظة التي علمتي بها بالأمر لا تتوقفي عن محاولة اصطياد النور لأطفالك ،خبئيه تحت وسادتهم في مطمورتهم ،مرريه بين أغنياتك وأودعيها في جيب الليالي الطويلة ابتكري لهن رقصات على مقام الجنون
لا تترددي في اللعب معهم ،دعيهم يصعدون ظهرك وكوني دوماً حصانهم الرابح ،ساحرتهم التي تخرج أرنباً من بطنها وبالوناً من يدها مرري النور تحت جلدك لتغفو آلاف الفراشات
تعلمي منهم و أكملي الفراغات في عمرك بكل ما تمنيتي ،انهم فرصة لتتمي ما فاتك
وجود آلة موسيقية في المنزل ضرورة ملحة لطرد الأرواح الشريرة لا تؤجلي فرح اليوم الى الغد وتذكري البسمة بالبسمة والبادي أجمل
تسألها ابنتها :
لماذا تكتبين سيرتك بضمير الغائب؟
تجيبها لأني الآن أقوم بدور الكاتب وأتحدث عن أدوار لم أكن موجودةً فيها
عندما تكون ابنة تختلف بدورها الذي تتعامل فيه كأخت أو كتلميذة أو جارة أو صديقة أوحتى زوجة وربة منزل، لاشك بأن الجسم هو ذاته، لكن أداء الحواس والعاطفة والعقل يختلف تماما بين أن تكون أماً و تلميذة ستذهلك الفروق والاختلافات التي تتغير لتنسجم وتكون بمقاس مناسب تماما للدور المطلوب وهذا ليس تلميحاً أو تصريحاً أنني أمثل ،على العكس هذا مفهوم ملموس ومطلوب أساساً لنفكك طلاسم الحياة ونمسك مفاتيحها.
هات سكينك واتبعني
تزامن قرارها بالنشر مع الأربعين من عمرها من جهة ومع الحرب من كل الجهات
كل شيء انقلب رأساً على عقب تغيرت ملامح الناس ووجوههم ،تغيرت عناوينهم
بات لزاماً عليهم تشريح جثتك في اليوم آلاف المرات لتحليل لونك المفضل ،وبات لزاماً عليك تقطيب قلبك واعادة لصق قفصك الصدري وتثبيت أطرافك الاصطناعية وأن تفتح شاشة التلفاز تفتش عن اسمك أو حتى قطعة استطاعوا التعرف عليها من جسدك، تتنقل بين المحطات فلا تجد خبراً يؤكد مقتلك بعد.. تبتسم ، فمازال أمامك يوم آخر لتحلم بالوطن .
الوطن الذي تطوع والدها في جيشه برتبة مساعد أول وتسلم مسؤولية عن محروقات اللواء 112 ليوفر سنوياً آلاف القسائم من البنزين والمازوت وزيت المحركات ،وهو الذي تجاهل أمراً عسكرياً( …) وتبع حدسه الذي أنقذ جنودا سوريين وأعادهم سالمين الى أحبتهم ،لم يرد اطلاقاً أن تتلوث يداه بالدماء (… ) ،دافع عن بلاده وعن روحه ونجح أن يظل نقياً .
وكان حتى وفاته يقص عليها حكاية العصفور الدوري ،الذي استجار به من طائر جارح كان يلاحقه فأنقذه وداواه ثم أطلقه في اليوم التالي يضحك في نهاية الحكاية فتغيب عيناه الصغيرتان .
للحرب أقوال أخرى:
ترغمك على استخراج كل طاقتك وأحلامك فلا وقت يتسع للحزن ولا حتى للغد ،فاتخذت السيدة الأربعينية التي أدت أدوارها للتو وتفرغت للدور الوحيد الذي أرادت انتقاءه
الكتابة بالنسبة لها جدار عازل، أو واقي نفسي ،انه بطانة الرحم الذي ما زالت تتكور فيه ليتلاشى هذا العالم البائس من ذاكرتها ،فتشعر بالأمان والفرح ،بشكل ما الكتابه بالنسبة لها تشابه الفلترة لكل ما علق بروحها من شوائب وندوب ورضوض نفسية .
(تحت سرّة القمر) روايتها الأولى التي تحولت لفيلم سينمائي طويل من اخراج الأستاذ غسان شميط الذي شاركته كتابة السيناريو ،وبدأتْ البحث عن مكافئ بصري لجملة مثل (غيابك فقاعات تحت خط النبض، لا تؤخذ على محمل الشهقة) أو ( أيها الموت كفاك بيننا حياة) لعبة جميلة في قاعة الحلم . أعجبتها التجربة وعادت طالبة من جديد في دبلوم العلوم السينمائية ،أي جنون هذا أن تذهب لسينما الكندي في دمشق تحت قذائف الهاون وانتظار الحواجز لتستمع لمحاضرة في السيناريو أو المونتاج !
ليس جنوناً ربما هو مصطلح لم تبتكر اللغة معادلاً يضاهيه قهراً أو وجعاً وفوضى .
تتذكر والدها الذي عشق السينما في شبابه والفن عموماً في كل حياته ،عندما رفض الخروج مع صديقه في نهاية الفيلم المصري، الذي يسقط فيه فريد شوقي ميتاً ليلة عرسه على حبيبته.
مطالبين بنهاية أخرى تليق بالعاشق .
_حرام بعد كل التضحيات أن تقتله رصاصة طائشة،أليس في قلوبكم رحمة،ألا تخافون الله!!!!
كان والدها دائماً يشبّه والدتها بمريم فخر الدين ، لقد توفي قبل أن يدرك أنهما يتشابهان في حبهما للحياة صحيح أنه لا يحب العمل بالأرض بعكسها تماما لكنه كان مغرما بالمطالعه والغناء والشعر والربابة ، ومن جهتها كانت الخضراء كالأرض والعلم والألوان.
يتناقل الأقرباء قصة شهيرة عنها عندما كانت منهمكة في المطبخ بتحضير الغداء لضيوف زوجها من مشايخ الدين ، فلمحها صهرها ترتدي فستاناً ملوناً ، وهذا غير محبذ فالفوطة البيضاء السميكة والفستان الأسود الطويل هما الزي الأكمل والأوقر، فهمس الصهر لزوجته كي تذهب الى المطبخ وتنبه أختها حتى تلبس فستاناً أسوداً، وبالفعل نبهتها أختها الصغرى لكن والدتها كانت منشغلة أكثر بكثير من أن تكترث لهكذا تفصيل وهي تكابد العرق والركض بين اللبن والبرغل والخبز ،بعيداً عن كل هذا هي غير مقتنعةأساساً بأشياء عديدة تحدث من حولها، فقالت لأختها الصغرى
_دعكِ من هذا الآن و ارتدي أي شيء من خزانتي وتعالي ساعديني بسرعة. الرجال لا يبرعون الا بإصدار الأوامر .
وبالفعل لبست أختها فستان من الخزانة وغابت الاثنتان بين اللحم والمناسف
حتى دخل الصهر الى المطبخ ليأخذ ماءً للضيوف، تفاجأ بزوجته هي الأخرى ترتدي فستاناً ملوناً فقال لها:
_لقد أرسلتك لتُعَقِليها فإذا بها تجننك معها !.
مد وجزر
ربما يكون ما قدمته ليس مثالياً لكنه كافياً بالنسبة لي ،فباعتقادي أن الحياة ليست الا مجموعة قصص تطول وتقصر لتؤلف بمجموعها سيرتنا الذاتية بغض النظر عن الدروب التي سلكناها أو الأثر الذي تركناه خلفنا.لم أتكلم في سيرتي عن آرائي وأفكاري كروائية وتركت لمن رغب الاطلاع على تجربتي من خلال رواياتي أو قناتي الخاصة بالأطفال على اليوتيوب.
أما هنا فقد حاولت أن ألتقي بذاتي بعيداً عن المجاملات واللغة والابداع.
الكاتبة جهينة علي العوام