الشاعر مردوك الشامي
يقرأ ” أرض الزئبق “
للكاتب نعيم تلحوق :
أحياناً تكونُ الشّتيمةُ ابلغَ تعليقٍ على الإعجاب..تكونُ ردّة الفعل الطبيعية على موقف ما، أو انفعال أكبرَ من التوازن والموضوعية التي نتمسك بها..
وهذا ماحدث حين انتهيت من قراءة مخطوط أرض الزئبق قبل نشره في الكتاب الذي نجتمع حوله اليوم..
أرسله لي صديقي نعيم لأقرأه، وشرف كبير أن يختصني نعيم بهذا الشرف..
أعترف أنني تعلقت بسطوره عند أول عناق، وأنني خلال يومين عشت حالات لا توصف من الدهشة والعشق والذهول.. بعيد منتصف ليل اليوم الثاني انتهيت من القراءة ..
وأول مافعلته أنني اتصلت بنعيم .. كنت أعرف أنّ الوقت متأخر، وقد يكون نائماً، وكان نائما ومع ذلك ألحيت في طلبه .. وحين سمعت صوته كانت ردة فعلي الأولى أنني شتمته.. نعم شتمتُ نعيم تلحوق على ما ألحقه بي خلال يومين من حرائق واشتعالات لا حدود لها..
شتمته لأنه أدخلني عالماً لا أحد سواه يمتلك المفاتيح إليه..
شتمته لأنه وضعني أمام لغة مجنونة الحكمة ، جميلة وفريدة حدّ التشظي والهيام..
شتمته لأنني لأول مرة اشعر بالغيرة من نصّ كتبه سواي..
لأنني مهما حاولتُ تلمسّه والإتيان بمثله سأكون عاجزاً حدّ الخرس..
شتمته لأنه بكل بساطة حطّم المرآةَ التي كنت طوال سنوات العمر أرى فيها وجهي حين أتأمل فيها، ولا أرى الله.
أقول بصدقٍ إن أرض الزئبق بكل الصفحات التي بين غلافيه أعلى بكثيرٍ مما يكتبه بشري، وليس أدنى مطلقا من كتبٍ يقال إنها منزلة، بل يتجازها أجنحةً ومجرات.
هل الرواية كجنسٍ أدبي هي التوصيف الدقيق لهذا الكتاب؟..
هل هو الشعرُ، أم الفلسفة، أم التطرفُ في الجنون؟..
الرواية تقوم على السرد الحكائي ، سرد المبنى، ونعيم تلحوق أطاح بالمبنى، واشتق للمعنى سرداً كثير الدلالات..
والرواية تقوم على المكان والزمان والأبطال والضحايا، على بداية وعقدة وخاتمة ما، ونعيم كان خارج المكان كله، خارج المجموعة الشمسية لكوكبنا الخرف، بعيداً عن الزمن المالوف المواقيت، داخل السرمد واللامتناهي من وقت..
والرواية لها ابطالٌ يقودون السرد والحدث، يتوهمون ويتوجعون وينهزمون وينتصرون، والأبطال في أرض الزئبق أم راحلة وأبٌ يحضر الآن وفي المستقبل، وفضائيون يسقطون تباعاً وبلا مصادفة، ليؤسسوا على التراب ممالك للنور .. أثق أن نعيم من تلك السلالة الغريبة ، اثق في ذلك.
والرواية وقائعٌ وواقع، وارض الزئبق خارج الواقع تماماً وخارج المدار المعيوش.
وقبل أن استرسلَ دعوني أسأل : ما دور الكتابة والكاتب؟..
في مجمل الموروث والمعاصر، على رفوف المكتبات، وعلى حبال وسائل التواصل الاجتماعي نقرأ هذا الدور بكل وضوح .. وهو اللاجدوى، والتراكم والهشاشات والخفة ، إلا قليلاُ وما أقل الاستثناء من هذاالقليل..
إذا لم تكنِ الكتابة خلقاً ، فهي جثة متحللة..
وإذا لم يكن الكاتب خالقاً ، وجريئاً وحرّاً وكشّافاً ، فهو مجرد كائنٍ عاطلٍ عن الحبر.
نعيم تلحوق وضع في كتابه مفاصل وشواخصَ وأسئلةً ولم يتركها من دون جواب..
صوّب على الوثنية في كل تشكلاتها، منذ الصنم الأول وصولا إلى الله ..
ومزق الأقنعةَ بلا استثناءٍ من الأرض المقنعة والسماء المقنعة وصولا للإنسان الذي بلا ملامح..
كثيرون سبقوا نعيم إلى اسئلة الوجود الكبرى، والخلق والخالق، والخلود والفناء..
فلاسفةٌ وعلماءٌ ومتصوفة وملحدون..كلهم طرحوا الأسئلة..
وفي أرض الزئبق كانتِ الأجوبة كلها حاضرة وبكل وضوح.
غلاف كتاب ارض الزئبق
كأن نعيم اراد بفكره إعادة تشكيل الحياة ماقبلها ومابعدها، وبتوصيفاتٍ لم يسبقه إليها أحدٌ أعاد ترتيب الجهاتِ واللغةِ والعوالمِ والشخوص..
لهذا نجد رؤيته للمرأة فريدة، كما رؤيته للرجل، ونقرأ إحساسه بالعقل والحرف والمعنى تتجلى في مطارحَ بلا سقوف.
تحدث في كتابه عن شخصياتٍ نعرفها، لكننا من خلاله عرفناها بطريقة مختلفة ، لأنه كان يرى فيها ما لم نره نحن..
ورصّع الكثير من صفحات كتابه شعرٌ كثيرٌ، ولغة مباغتة تدفع إلى الدهشة والارتعاش..
في قراءتي هذه لم أقارب الكتاب نقدياً لا قراءةً مُحكمة ولا انطباعاً ، حاولت الحديث عن تاثير هذا الكتاب في داخلي، عن آفاق بلا حدود يفتحها نعيم تلحوق بفكرة الفلسفي ورؤيته الخلاقة المستشرفة ..
في بداية الكلام، قلت إنني شتمتُ نعيم حين انتهيت من قراءة المخطوط ..
والآن وقبل أن أترجلَ عن منبر العشق ..
اشتمنا لأنني وأنا مسؤول جدا عما أقول نعجز عن الإتيان بمثل هذا الكتاب اجمعين.
( مداخلة الشاعر مردوك الشامي في ندوة مجلة ” تحولات ” حول ” أرض الزئبق ” للكاتب نعيم تلحوق )
الشاعر مردوك الشامي خلال ندوة ” تحولات ” في قراءة أرض الزئبق للكاتب نعيم تلحوق