متحف فريدريك بازيل
لا يستطيع زائر مونبلييه، إلا أن يتوج رحلته بزيارة متحف الرسام الفرنسي الإنطباعي، فريدريك بازيل- Frédéric Bazille. كان في الأصل بيته العائلي. وقد رصدت البلدية مبلغ أربعة ملايين يورو لتأهيله، بعد أن إستملكته مع الحديقة التي كان قد جعلها محترفه في الهواء الطلق. بالإضافة إلى جميع الجنائن في المحيط الجميل، الغني بالأشجار الحرجية المعمرة: الصنوبر الشامخ والسرو المشرئب. والعفص الحاني، على الأسيجة القديمة. وكذلك على حوافي الدروب حتى ضفاف نهر ال”ليز- Lèze”، الفاصل بين بلدة Aiglelonge، وبلدةCastelnau التاريخية، المقابلة لها.
في هذا البيت العريق بقرميده المعتق، و الذي يعود بناؤه إلى القرن الثامن عشر، وهو محترف الرسام/ الذي آل إلى متحف، كان جان فريدريك بازيل، الرسام الإنطباعي الفرنسي، قد أنجز فيه معظم لوحاته. مستفيدا من الحديقة الجانبية كمتحف طبيعي ناجز. فكان يضع فيها شخوصه في منظر طبيعي، مطبوع في الهواء الطلق.
لوحة ” لمّ شمل الأسرة ” من أهم لوحات الفنان فريديريك بازيل
فريدريك بازيل من مواليد مونبلييه (6/12/1841). غير أنه جنت عليه الحرب الفرنسية – البروسية، فقتل أثناءها العام1870 مجندا شابا يدافع عن وطنه. وتم دفنه في مدينة Beaune-la-Rolande، فما كان نصيبه من الحياة أكثر من تسع وعشرين عاما.
لكن السؤال، كيف تحققت للرسام الفرنسي الإنطباعي كل تلك الشهرة، وهو الذي كان قد لبى طلب والده الثري، لدراسة الطب في جامعة مونبلييه العريقة. فمن أين جاءه فن الرسم، حتى شغف به، فتحول عن دراسة الطب إلى طلب فن الرسم؟.
والواقع، إن جان فريدريك بازيل، كان قد غادر مونبلييه لإستكمال دراسة الطب في باريس، بناء لتمنيات والده الذي كان يعمل في التجارة. فتعرف هناك على صديقه الرسام أوجين ديلاكروا. كما إلتقى أيضا الرسام رينوار، رائد المدرسة الإنطباعة في فن الرسم. فظهرت عليه ميول عظيمة للتدرب على الرسم، من خلال معاشرته لطبقة الرسامين. إذ كان من أصدقائه أيضا: الفرد سيسلي و كلود مونيه وإدوار مونيه من معهد غليير. فكان ينفق على أصدقائه من ثراء أبيه.
ولشدة تأثره بفن الرسم، إقتنى جان فريدريك بازال محترفا. وصار يعيش متنقلا بين المحترفات التي كان يستأجرها، ثم لا يلبث أن يتركها لرفاقه الرسامين الذين كان يلازمهم ويلازمونه، في مشورا هذا الفن الطويل.
من لوحات الفنان فريديريك بازيل
هل كان من حظ الرسم الفرنسي، أن يرسب بازيل في الطب ويتحول إلى الرسم؟. أم أن عشقه للرسم فاق المعقول، بحيث جنى عليه طبيبا، فرسب في الإمتحان التخصصي للطب، فإنتهزها فرصة، وتحول إلى فن الرسم حتى برع فيه.!
في الواقع، إن حكاية بازيل مع الرسم، مشوقة للغاية. ذلك أن الرسم كان له قوة سحرية في نفسه بل كان جاذبا له. وهذا ما جعله يهمل عالم الطب ويتأخر عن متابعته، مستغرقا في عالم الرسم، بدليل، أنه لم يعرف صديقا واحدا له من الأطباء، في الوقت الذي كان معظم أصدقائه ورفاقه، من كبار الرسامين الذين أرسوا دعائم المدرسة الإنطباعية، في فن الرسم الفرنسي.
لوحة للفنان فريديريك بازيل
إلى ذلك، فقد كان الرسام جان فريديك بازيل في الثالثة والعشرين من عمره، حين رسم أشهر أعماله. إذ لم يلبث أن إمتهن الرسم، خلال سنوات. وعرض في “الصالون”، سنة1868، في الوقت الذي رفض “الصالون”، عرض عمل لصديقه كلود مونيه، الذي كان فنانا أصيلا. أما بازيل، فقد كان في ذلك الوقت رساما مبتدئا. يرسم بصيغة ما قبل الإنطباعيين، تماما مثلما يرسم بصيغة الإنطباعيين وينوف عنهم.
نريد أن نذكر أيضا، مأثرة أخرى لبازيل، هو أن لوحته: ” إجتماع عائلي”، والتي رسمها العام 1867. كانت موحية لصديقه كلود مونيه. إذ لم يمض إلا وقت قصير، حتى وضع كلود مونيه لوحته الشهيرة: “نساء في الحديقة”. وذلك في وقت لاحق من العام نفسه.
وقد قارن كثير من النقاد بين العملين. ومالوا إلى التنويه ببازيل الرسام، ولو أنهم إتفقوا على تقديم مونيه عليه بالكلية. دون أن ينسوا تأثر لوحته: “نساء في الحديقة”، بلوحة بازيل: “إجتماع عائلي.”
كان الرسام بازيل قد رسم أصدقاءه وأقاربه. ومعظم رسمه، كان من حياته. والقليل كان من ذاكرته. إذ كان يستعمل القريبين منه، كموديلات. حتى أنه رسم نفسه في لوحته “إجتماع عائلي”، فظهر في ناحية بعيدة من لوحته. إذ إستخدم العنصر البشري، إضافة إلى العناصر الطبيعية. أو أنه رسم الطبيعة، ثم أضاف إليها العنصر البشري.إذ يحار الناقد أن يحدد، العنصر الأساسي في اللوحة: أهو العنصر الطبيعي، أم أنه العنصر البشري. وهل كان المشهد الطبيعي ديكورا، أم أساسيا. والسؤال: ما هو عند بازيل الأساسي! وما هو التكميلي!.
فريديريك بازيل بريشته
حقيقة، تأثر بازيل بالمدرسة الإنطباعية، على خطى الإنطابعيين من أصدقائه، وخصوصا كلود مونيه، كما أشرنا سابقا. فالرسامان إشتغلا على العامل التركيبي في اللوحة، بين الطبيعة والشخوص وهناك تركيب هندسي آخر ، هو تركيب المشهد الهندسي، القائم على الضوء والظل. وقد توقفت الناقدة الإنكليزية “أنطونيا كاننغهام”، عند أعمال بازيل، وقارنتها بأعمال مونيه. والطريف في الأمر، أن لوحة مونيه، التي رفضها “الصالون”، عاشت أكثر من كل أعمال بازيل. ولا ننسى، أن بازيل أتت لوحاته كلها واقعية، حتى لتكاد أن تكون فوتوغرافية. وهو لم يتسن له من الوقت الذي أمضاه في الرسم، أكثر من خمس سنوات. فماذا لو عاش أكثر من ذلك، خصوصا حين نعرف، أن لوحته” إستديو بازيل”، كان قد أنجزها في العام الذي قتلته الحرب فيه جنديا يدافع عن الشرف الفرنسي.
جان فريدريك بازيل، الرسام والطبيب والجندي، إختار أخيرا، أن يلون حياته بين الأهل وبين الأصدقاء وبين الرفاق. وأوصى فوق ذلك، بدارته التي ورثها عن أهله، لبلدية مونبيلييه، فأوفت له، كما أوفى لشعبه. فبادلته الوفاء، بالوفاء. وجعلتها متحفا له بعد أن كانت محترفه، ولو بكلفةأربعة ملايين دولار. فبازيل الرسام المميز، يستحق مثل هذا التكريم وأكثر.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الدكتور قصيّ الحسين